أقلام ثقافية

غزلان زينون: بلاغة الكينونة.. قراءة في الداخل

لم أكتب هذه النصوص لأُعلّم، بل لأتذكّر. لأجعل من لحظاتي المتناثرة خيطًا يشدّني نحو ذاتي، ويمنحني توازنًا وأنا أرقص بين أدوار كثيرة.

العِلم بالنسبة لي لم يكن رفاهية، بل كان مرآتي الداخلية حين تغيب عني باقي المرايا. هو الهواء حين تخنقني المسؤوليات، والماء حين تجفّ الروح، والطعام حين يكون التعب أقوى من الشهية.

كل حرف ليس إنجازًا، بل وقفة. وربما وجدتِ فيه نفسك، أو تذكرتِ صوتًا داخليًا خافتًا حاول أن يتكلم يومًا... فأرجوكِ، دعيه يتكلم.

دفتر لا يعرف النوم

في كل مساء، حين يخلد الجميع للنوم، أفتحه كما تُفتح نافذة سرّية على ذاتي. لا أنوي أن أدوّن شيئًا عظيمًا، فقط أسجّل صوت الحياة بداخلي. أحيانًا أكتب: اليوم تعبت. لكنّي قرأت ثلاث صفحات من كتاب المنطق... وما زلتُ هنا.

وأحيانًا أكتب: شعرتُ أنني هامش في قصة الجميع... لكنّي صنعتُ هامشًا لي وحدي، وأضأت فيه شمعة من فِكر.

ذلك الدفتر لا يعرف النوم، تمامًا مثلي. نحن الاثنان نتقاسم العناء، ونستتر بالحبر.

مِن صمتِ الجدران

 ثمة جُدران تشهد أكثر مما نُدرك. لا تتكلم، لكنها تحفظ. تحفظ نبرة صوتي حين أقرأ، وتحفظ تنهيدتي حين أفشل في الفهم، وتحفظ ضحكتي المباغتة حين أكتشف شيئا جديدا.

كنت أظن أني وحدي من تسمعني الكتب، لكنّني بدأت أسمع الجدران أيضًا. كأنها تقول: “هذه الجملة ناقصة... أتمِّيها، اللغة لا تتكلّم فقط في الفصول والمفردات، بل في الفُسح بين الأصوات، في صمت المساء، في انحناءة الضوء على ورقة مفتوحة.

ماذا بعد ...؟

حين تلقيتُ الخبر: تم نشر البحث في العدد الجديد...، لم أحتفل، لم أقفز، لم أصرخ، لم أبكِ. فقط وضعتُ الحاسوب جانبًا، وفتحت النافذة، الهواء ذاته، السماء كما هي...شعرت كأن شيئًا داخلي قد هدأ، لا لأنه وصل، بل لأنه أدرك أن الوصول ليس نهاية الطريق، بل بدايته.

ما كنتُ أبحث عنه لم يكن النشر... بل تصديقٌ داخلي أن جهدي ليس وهمًا، وأن ذاتي الموزعة بين العمل والمسؤوليات... ليست متناقضة، بل متكاملة.

ثم جاء السؤال الأكبر... ماذا بعد؟ هل أواصل لأثبت شيئًا للعالم؟ أم لأثبت لنفسي أن المعرفة لا تكتمل أبدًا، وأن كل إجابة تفتح ألف سؤال؟

جلستُ أكتب: إيماني الآن ليس بأنني وصلت، بل بأنني وُجدتُ لأطلب، لأفكّر، لأتساءل... وأن العلم ليس منزلًا أسكنه، بل طريقًا أمشيه، حتى آخر الحرف، وآخر النَفَس.

ضدّ الجاذبية...

بعض الأيام، تكون الأرض أثقل من المعتاد. الوقت بطيء، والأفكار مثقلة، والإنجازات السابقة تبدو بعيدة، كأنها إنجازات امرأة أخرى لستُ أنا.

يقولون إن لكل شيء جاذبية: الأرض، الحزن، وحتى التعب... لكنهم لا يتحدثون عن جاذبية المعرفة، هذه التي تجعلني أقوم من فراشي رغم السهر، رغم المرض، لأفتح كتابًا بينما الجميع نيام.

أن أستمر لا يعني أنني لا أتعب، بل يعني أنني لا أُسلّم نفسي لما يُريد أن يُسكت صوتي الداخلي.

أحيانًا، لا أكون طموحةً بقدر ما أكون مُتمرّدة على حدود رسمها لي غيري: سنّي، دوري، مكاني، طاقتي، أشخاص حولي ... كلّها محاولات لربطي بالأرض، لكن العلم يمنحني أجنحة تجعلني أحلق هاربة من كل شيء.

أنا لا أطير، لا أتسلق جبالًا، ولا أقف تحت الأضواء. أنا فقط أُكمل جملةً بدأتها بالأمس، وأراها اليوم تكتمل.

 بين الجُمَل...

كثيرًا ما يُخيَّل للناس أن الحياة تكمن في العبارات الصريحة، في الجُمل المكتملة التي تنتهي بنقطة أو علامة تعجّب. لكنني وجدتُ نفسي بين الفواصل، في تلك الوقفات الخفيفة التي لا يلتفت إليها أحد.

أُحبّ ما بين الجُمل، لأنني هناك لا أكون ملزَمة بأن أُثبت شيئًا. ليس مطلوبٌ مني حُجّة، ولا ينتظر أحدٌ نتيجة. إنها اللحظات التي تُقال فيها أعمق الأفكار على استحياء، حين يصمت العالم وتتكلم الذات.

أحلم أحيانًا بأن أكتب نصًّا كلّه فواصل... بلا بداية ولا نهاية، فقط تتابع لما لا يمكنني قوله.

وبينما أراجع مقالةً أكاديمية، كثيرًا ما أتوقف، ليس عند الادّعاء أو البرهان أو نظرية، بل عند تلك اللحظة التي يسكت فيها الكاتب ليلتقط أنفاسه... هناك، أنتمي.

أن أعيش بين الجُمل لا يعني أنني ضائعة، بل أنني أقيم في المساحات التي تُترك لتتنفّس. الهوامش هي طريقتي لأقول: أنا هنا...

أتنفّس علمًا...

حين بدأتُ، لم أكن أبحث عن منصة أرتقيها، ولا عن لقبٍ يتقدّم اسمي. كنتُ فقط أبحث عن هواء أتنفّسه في زحمة الواجبات، بين الجدران الصامتة، وتحت سقفٍ كثير الانشغالات كتبتُ قرأتُ لأنّ الحروف كانت ماء قلبي. ودرستُ لأنّ الجهل كان يخنقني.

وحين تنُشر أعمالي، ويتلألأ اسمي على صفحاتٍ...لا أشعر بالظَفَر… بل بالتصالح. كأنني عدتُ إلى ذاتي الأولى، تلك التي كتبت في دفتري: لأعرف، لأفهم، لأكون، ذاتي التي ولدت معي قبل أن تسرق مني...

العِلم، يا رفيقتي، لم يكن سُلّمًا أعلو به على غيري. بل سلّمًا أستعيد به نفسي، شيئا فشيئا. وأعلمُ الآن أنني سأُكمل، لا لأصل، بل لأُبقى حية.

***

بقلم: غزلان زينون

في المثقف اليوم