أقلام ثقافية
ناجي ظاهر: شخصيات وذكريات (2)

فوزي عبدالله.. وموعد سخيّ مع المطر
ابتدأت علاقتي بالشاعر فوزي جريس عبدالله (1988-1942)، ابن بلدة المغار الذي اقام جُلّ حياته في الناصرة، وكوّن فيها عائلة ما زالت تقيم فيها، بعد رحيله عن عالمنا، في السبعينيات الاولى وتواصلت حتى ايامه الاخيرة في الحياة. ابتدأت هذه العلاقة بعد ان اصدر مجموعته الشعرية الاولى "موعد مع المطر"، وقد اثارني ما كتبه عنها صديقه في حينها الشاعر توفيق زياد، وما كتبه عنها ايضًا الصديق الكاتب اسبير عبود، فقررت ان اتعرّف عليه، واذكر انني قمت يومها بكتابة مقالة قصيرة عنه نشرتها صحيفة "القدس"، الامر الذي اثاره وكان أن جمعتنا جلسة في مقهى ابو ماهر القريب من عين العذراء، تعرّف فيها كلٌ منا على الآخر لتبدأ صداقة تدوم حتى رحيله قبل سبعة وثلاثين عاما.
كتب فوزي عبدالله واصدر خلال حياته القصيرة نسبيًا العديد من المجموعات الشعرية والدراسات الادبية، كما اسس مجلة "المواكب" التي انتقلت ادارة تحريرها بعد رحيله المبكر إلى الشاعر الصديق جمال قعوار، كما بادر لإقامة العديد من المؤتمرات وشارك في الحياة السياسية وكان رجلًا ثائرًا، اطلق عليه اصدقاؤه صفة البلدوزر لما اتصف به من نشاط فائق وسرعة حركة. وقد اتصف ما كتبه فوزي من اشعار بالحماسية متتبعا خطى شعراء الحماسة العربية ومقتفيًا آثاراهم ولم يكتب، فيما اعلم شعرًا نثريًا او قصيدة النثر، واذا فعل فإنما قام بهذا ضمن حيّز محدود جدًا، ذلك انه كان مطلعًا على التراث العربي القديم ومتشبعًا بقيمه وجمالياته المعروفة. مؤلفات فوزي هي: "موعد مع المطر" - الناصرة 1966، و"الطيور المهاجرة" - الناصرة 1973، و"الفارس يترجّل" - الناصرة 1974، و"شدوا الخطى" - الناصرة 1974، و"قصائد عن الخروج والعودة" - الناصرة 1987، و"قراءة في سفر التكوين"- الناصرة 1988، وله قصائد نشرتها الصحف والمجلات في فترته، خاصة مجلة "المواكب".
اما في الدراسة الادبية فقد كانت له اجتهادات ملموسة ويُذكر انه الف كتابًا عن الرومانسية في الشعر العربي، كما كتب سلسلة هامة جدًا من المقالات النقدية، حاول فيها ان يؤسس لحركة نقدية منهجية، وقد نشر بعضًا منها في صحيفة "الصنارة"، علمًا انه كان احد المساهمين في شركة اصدارها، اما مجلة "المواكب" الدورية التي كانت تصدر كل شهرين مرة، فاذكر انه اختار اسمها من عنوان قصيدة جبران خليل جبران التي حملت نفس الاسم وغنت ابياتًا منها السيدة فيروز. وكان فوزي حريصًا كل الحرص على ان تُشدّد مجلته هذه على نشر الابداعات المحلية، خلافًا لمجلة "الجديد" الثقافية الشهرية التي كانت تنشر الادب المحلي والعربي وحتى المترجم من لغات اخرى، وقد اعتمد في تحديده هذا للمواكب على منطق اننا يفترض ان نخدم حركتنا الادبية اولًا وان نقدم افضل نماذجها إلى القراء العرب في كل مكان ثانيًا. اما مبادراته في اقامة المؤتمرات الثقافية فقد تنوعت وتعددت واعتقد انها تركت آثارًا لا يمكن تجاهلها في حياتنا الثقافية، ومما اذكره له بكثير من المحبة انه اتاح لي المشاركة الفعالة في مؤتمرين احدهما عن الاغنية العربية والآخر عن الشعر العربي.
بالعودة الى مجلة المواكب ومؤسسها فوزي جريس عبدالله ، اذكر قصة تستحق ان تروى. كان ذلك في اواسط الثمانيات، وكنت حتى تلك الفترة قد عملت بصورة متقطعة على امل ان اتفرغ للكتابة والابداع جريًا على طريقة الكاتب العربي المصري عباس محمود العقاد، الذي عاش متفرغًا للكتابة، اذكر حينها ان نقاشًا دار بيننا، فوزي وانا، يمكنني ان الخصه على النحو التالي:
قال لي فوزي: اعتقد ان الوقت حان لأن تعمل.. لا يوجد كُتاب متفرغون في عالمنا العربي.. حتى نجيب محفوظ عمل في وظيفة.. دع الكتابةَ هواية تمارسها في الليالي. واجعل النُهر للعمل والعيش. الآن قد تجد من يشغلك.. غدًا عندما تكبر لن يشغلك احد.. الحق حالك.. اسمع مني.
اعترف ان ما قاله لي فوزي اثر في قليلًا، فسألته واين اعمل. يومها اقترح علي ان اعمل في صحيفة يمون عليها، إلا انني رفضت بادعاءات اثبتت الايام هشاشتها، عندها اقترح عليّ ان اعمل إلى جانبه في مجلته " المواكب"، فوافقت وابتدأت العمل معه والى جانبه في مكاتب المجلة التي كانت تقوم في بيت مستأجر يقع في منطقة حي الميدان في الناصرة. وقد عملت معه حتى ايامه الاخيرة، واذكر انني عندما دخلت عليه لأودعه، اسوة بآخرين من اصدقائه ومحبيه، في بيته القائم في حارة الزهر، سألني وسط ابتسامة غامضة عمًا اذا جئت اودعه. فنزلت من عيني دمعة حارة. فما كان منه الا ان ربّت على كتفي قائلًا هذه هي الحياة نولد ونموت. لا تحزن يا صديقي.
رحم الله فوزي فقد كان محدثًا لبقا طليّ المنطق، يميل الى رواية النكتة، ويحسن التعامل مع الاخصام كما مع الاصدقاء، كما كان خطيبًا مفوها يحسن الخطابة في المجالس الخاصة والعامة، وقد رافقته في العديد من الجولات لجمع الاشتراكات لمجلة المواكب، وشهدت عن قرب كيف كان يقنع الحاضرين بأهمية ان نكون معًا وان نؤسس لثقافة حقيقية تبتعد عن ثقافة القطيع وتحترم المبدع الحقيقي، ومما اذكره في هذا السياق، صرخته الخطابية المدوّية في مبنى سينما ديانا في الناصرة، احتجاجًا على اخراج السلطات الحاكمة الحركة التقدمية عن القانون وهي: تعريّ ايتها الديموقراطية الاسرائيلية لنرى بشاعتك المغطاة بأوراق التين.
جمال قعوار.. وغبار السفر
كان الشاعر جمال قعوار (19 كانون الاول 1930 - 24 حزيران 2013)، واحدًا من اقرب المقرّبين إلى فوزي جريس عبدالله، لهذا ما ان رحل فوزي عن عالمنا وهو في اوج شبابه وعطائه، حتى كان من الطبيعي ان يتولى جمال امر تحرير المجلة وكل ما يتعلق بها من ادارة، وذلك من اجل الاستمرار ومواصلة المشوار الصعب. وكان اول ما فعله جمال هو انه نقل مكاتب المجلة إلى محالٍّ تقوم في بيته القائم في حي الامريكان، كما كان من الطبيعي ان تنتقل هيئة التحرير للعمل معه وإلى جانبه، وقد كنت اتردد على مكتب "المواكب"، في اصدارها التواصلي الثاني في بيت جمال، بصورة عامة، كل اسبوع مرة فكان يستقبلني بابتسامة لم تفارق محيّاه حتى ايامه الاخيرة في الحياة. مرفقًا اياها بحفنة من الاخبار اليومية وفنجانًا مليئا بالقهوة العربية الاصيلة. وكان يعجبني في جمال تواضعه العلمي الآسر، ومما اذكره عنه انه كان كلّما استمع إلى كلمة استعصى عليه فهمها، يتوجه الى رفيقه الدائم القاموس المنجد ليبحث عن الكلمة حتى يعثر على معناها الدقيق، كما حدث مع كلمة "العلوج"، التي وصف بها وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف، ابان الحرب الثلاثينية على بلاده العراق الاجانب بهذه الصفة. وهنا اود ان اوضح معلومة خاطئة منتشرة عن اطروحة الدكتوراه التي اعدها جمال وحصل لقاءها على الاجازة، فقد اعتقد الكثيرون انها في اعراب القران، بمعنى ان جمالا اعرب القرآن الا ان الأطروحة دارت حول ما بحثته الدراسات التي اعدها اصحابها عن اعراب القران الكريم.. وشتان ما بين فهم هذا البعض وبين الواقع.
كتب جمال في جُلّ ما اصدره في حياته، القصيدة العربية التقليدية، ويذكر كاتب هذه السطور انه تعلّم خلال دراسته الابتدائية قصيدته "جنى الحصاد" لجمال، تلك القصيدة التي كانت مدرجة ضمن المنهاج التعليمي، في كتاب "سنابل من حقول الادب"، كما كتب جمال القصة والرواية، والقصة للأطفال لا سيما مع زميله الكاتب الصديق محمود عباسي اطال الله في عمره ، اضافة الى الاناشيد المدرسية بالاشتراك مع صديقه الشاعر المرحوم جورج نجيب خليل، ويُذكر له وهو ما عرفته عن قرب، أنه كتب المئات من الابيات الشعرية التي زين بها اهالٍ من الناصرة مكاتيب دعوات لأعراس ابنائهم واحبائهم، بالضبط كما كاتب المئات من الابيات الشعرية التي نقشها اهالٍ على اضرحة ابنائهم واعزائهم الراحلين. وقد كتبت مقالًا ضافيًا عن كتابة جمال قعوار وأصدقائه للأطفال، نشرته في غير هذا المكان.
اصدر جمال في الشعر عددًا وفيرًا من المجموعات، وكان اولها "سلمى" واغنيات من الجليل" صدرت الاولى عام 1956 والثانية عام 1958، وكان آخرها " في مواسم الضياع" صدرت عام 2002، وجمع جمال مختارات منتقاة من اشعاره في كتاب ضخم اطلق عليه عنوانًا وداعيًا هو " قصائد من مشيرة العشق"، صدر عام 2000.
عام 1973 وقع حادثٌ عنصري ضد جمال قعوار فدفعه للخروج عن طوره، وقد تمثل هذا الحادث في توجيه طالبة جامعية له صفة " عرفي ملوخلاج- عربي قذر"، فما كان منه إلا أن توجه إلى اوراقه واقلامه يبثها لواعج المه وحزنه، ولم تنته تلك الليلة إلا بعد ان فرغ من كتابة مجموعته الشعرية النثرية الوحيدة وهي "غبار السفر"، ومما يذكر عن هذه المجموعة أن صاحبها كتبها نثرًا إلا انها لم تختلف كثيرًا عمّا كتبه من شعر عربي وفق البحور العربية الخليلية المعروفة.
لقد اجريت اكثر من مقابلة مع جمال، والطريف انني كنت اوجه إليه الاسئلة مكتوبة وكان يفاجئني، بعد ساعات بإجابات مفعّلة – من تفعيلة، تنتهج اسلوب شعر التفعيلة، كان جمال من اكثر من عرفتهم من اصدقاء، معرفة باللغة والبحور الشعرية، وكان في المقابل انسانًا متواضعًا لا يدعي ولا يتكبر.
ومما اذكره عنه في هذه المناسبة، انه خصص العديد من اعداد مجلة "المواكب"، خلال تحريره لها، لتكريم كتاب وشعراء من بلادنا، وكان لكاتب هذه السطور أحد هذه الاعداد التكريمية ونشر فيه جمال عددًا من الدراسات عنه، اضافة إلى عدد من كتاباته القصصية، وعندما اقترحت هيئة تحرير المجلة تكريم جمال وقع اختياره على كاتب هذه السطور ليقوم بإعداد العدد وتحريره. وهناك طرفة لافتة وقعت خلال اعدادي هذا العدد من مجلة "المواكب"، تقول تفاصيلها اني توجهت اكثر من مرة إلي صديق عمر جمال قعوار وصديقي ايضًا الكاتب الشاعر المرحوم طه محمد علي ليكتب كلمة عن جمال، وعندما كاد وقت اصدار العدد يأزف دون ان يلبي طه طلبنا، توجهت اليه في بيته القائم في حي بئر الامير، ليُملي عليّ ما اراد كتابته.. وهكذا كان، وقد اعترف طه في كلمته هذه انه كان يستفز جمالًا في نقاشاته معه الخاصة باللغة العربية ليتعلم منه.
***
ناجي ظاهر