أقلام ثقافية

حميد بن خيبش: سومرست موم.. عُصارة كاتب

(لقد أقبلت عليها كما تُقبل البطة على الماء، ولم تنقطع قط دهشتي من أنني أصبحت كاتبا)... سومرست موم

لقيت الرواية الأولى للأديب والمسرحي البريطاني سومرست موم (ليزا فتاة لامبث)، نجاحا كبيرا دفعه للتخلي عن مهنة الطب والتفرغ للكتابة. فوجئ الناس بإزميل ينحت الطبيعة البشرية بدقة هائلة؛ ففي الرواية يقدم موم للقارئ شخصية فتاة مفعمة بالطموح والحياة، ورافضة لبيئة الحرمان التي كانت سمة أحياء لندن الفقيرة آنذاك. غير أن الرغبة في تعويض الإحساس بفقدان الأب ستدفع فاتنة الحي إلى التعلق برجل متزوج يكبرها سنا، لتنتهي الأحداث بوفاة ليزا، بينما الأم الجشعة تعدّ ببرود نقود التأمين.

تفرّغ سومرست موم للكتابة التي قال بأنه بدأها كأمر طبيعي مألوف لا انفكاك عنه، تماما كالبطة التي لا انفكاك لها عن الماء. وفي سيرته التي تُرجمت إلى العربية تحت عنوان (عصارة الأيام)، لم يكتف موم بسرد تجربته الحياتية والصعاب التي اعترضت مسيرته الأدبية، وإنما برع كذلك في عرض نقائصه ككاتب، وملاحظاته على أساليب الكتابة لدى أسلافه ومعاصريه على حد السواء.

إن الإنسان العادي هو الذي على الكاتب أن يعالجه، فهو يحكي ذاته ولا يجد سببا لاصطناع شخصية أخرى. لذا كانت ذخيرة موم دوما هي عامة الناس، أولئك المغمورون الذين يظهرون على حقيقتهم، ولا يخفون تصرفاتهم الشاذة لأنه لم يخطر لهم أنها كذلك. فالعادي إذن، يقول موم، هو ميدان الكاتب الأخصب؛ يُمدّه بمادة لا تنضب بسبب ما فيه من جدة وتفرد وتنوع لا حد له. 

لا يخفي موم احتجاجه على الكتابة المنمقة والمثقلة بالتطريز والعبارات المحشوة. ويلقي بالمسؤولية على المؤثرات الشرقية التي تضمنتها توراة الملك جيمس، والتي أساءت للسان الإنجليزي البسيط والصادق، حيث تنافس الكُتاب في تقليد أسلوب كلام الأنبياء العبرانيين. كل ذلك التكلف كان يُخفي برأيه شخصيات مرهقة، وأسلوبا يعاني من فقر الدم. وحين يُجري تشريحا لما خطه قلمه في حداثة سنه، يجزم بأنه مدين في نجاح أعماله إلى تلك القدرة الطبيعية على الوضوح والتأثير، من خلال الدقة المتناهية في استخدام المفردات. طبعا أغنى موم رأسماله الأصلي باكتساب عشرات النماذج التي برع في التمييز بين خصائصها في الكتابة، والنفاذ من خلال الكتابة إلى عمق شخصية الكاتب وطريقته في الملاحظة.

أُعجب سومرست موم بنثر الأديب الإنجليزي جون درايدن، وصرّح أن النثر لم يُكتب قبله بمثل تلك الروعة. ولكي يخرج من دائرة الانطباع إلى الدراسة الدقيقة، فقد لخص ببراعة سمات أسلوب درايدن لتحديد خصائص النقلة التي أحدثها في الكتابة آنذاك. يقول موم:

" لقد أينع درايدن في لحظة هانئة. وكانت تسري في عظامه الجمل الجهيرة، والصنعة الهائلة من لغة العصر اليعقوبي، ولكنه فضل النعومة الراقية المرهفة التي ورثها عن الفرنسيين. أحال اللغة إلى أداة لا تلائم التعبير عن الموضوعات الجدية فحسب، بل تستطيع أن تسجل الخواطر الخفية العابرة؛ وبذلك كان رائد فن الأسلوب الموشى (Rococo). وإذا ذكّرنا سويفت بقناة فرنسية، فإن درايدن أشبه بنهر إنجليزي يتلوى في طريقه حول التلال وبين القرى الوادعة، وهو مغرق في الصمت عندما ينبسط في مجراه، ومسرع في تدفقه حين توعر طريقه."

لتبدع كتابة جيدة ومتألقة، ينبغي لأسلوبك أن يرتكز على ثلاث دعامات، وهي بحسب موم، أسلم مستوى من الكتابة سمحت به نقائصه الطبيعية.

أول دعامة هي الوضوح، فلا يجوز للكاتب أن يغلف معانيه بالغموض، أو يضفي سحرا على العبارة يحول بينها وبين أن تكون واضحة لدى القارئ. إن الكلمة بنت الفهم الدقيق للطبيعة البشرية، ولا حجة لأنصار الغموض من الُكتاب، لأنه يتسلل إلى الكتابة إما تحت وطأة الفكرة المشوشة التي تتكون أثناء عملية الكتابة لا قبلها، وإما لهزالة الأفكار التي يحاول الكاتب إضفاء هالة عليها. وقد ينشأ كذلك بسبب النزعة الارستقراطية التي تحمل الكاتب على أن يُغلف معانيه بالغموض كي لا تستطيع العامة المشاركة فيها.

وأما الدعامة الثانية فهي البساطة التي تمتحن قدرة الكاتب على إخفاء الجهد الذي بذله أثناء الكتابة. ينبغي للعبارة الفخمة والمفعمة بالارتباطات الشعرية أن تكون ناتجة عن إلهام معين، بمعنى آخر، فإن الكلمة التي لها طغيانها بكل تأكيد، إنما وُجدت من أجل معناها، وإذا لم يُلق الكاتب بالا إلى المعاني فكأنه لم يكتب شيئا.

تتطلب البساطة جهدا قاسيا، وهي تحتاج إلى الذوق أكثر من القوة، وإلى الإلهام أكثر من العظمة. إن النثر الجيد، يقول موم، ينبغي أن يشبه حديث الناس ذوي التربية الحسنة.

والدعامة الأخيرة هي الجرس، أي الموسيقى الخاصة بالنثر والتي بدونها لا يكون الأداء كاملا، وهي تنفي عن البساطة احتمال الجفاف، وتفترض أن يكون مزاج الكاتب أرهف من مزاج قرائه، فيتفطن للرتابة التي يمكن أن تسببها إيقاعات معينة في كتاباته.

أصرّ موم على أن يكون كتابه خلاصة تجاربه في الكتابة بعيدا عن أية صيغ وعظية. ولك أن تتعجب من صراحته البسيطة وغير المتكلفة، وهو ينتقد مساره في عالم الكتابة، أشد مما قد يفعل أي ناقد به! فالرجل الذي طرق مبكرا أبواب الشهرة والمجد، يفصح للقارئ عن أخطائه وعيوبه، والنقائص التي شابت أسلوبه في الكتابة، كأنه يُفشي بأسراره لصديق مقرب ويتوقع منه الكتمان. ففي جمل قصيرة ومفعمة بالحيوية، يسطر موم اعترافات ليس لها مثيل في تجارب الكُتاب الآخرين وسيرهم، بابتسامة ساخرة، وإنكار للحدود الوهمية التي يختلقونها حرصا منهم على معبد الفن الجميل وسدنته.

ألم يكتب يوما مستنكرا: لا عذر لفنان يتعالى على الناس، وإنه لأحمق إن ظن أن ما لديه من معرفة أخطر مما لديهم؟!

***

حميد بن خيبش

في المثقف اليوم