أقلام ثقافية
إبراهيم برسي: صنع الله إبراهيم.. حين يبدّل الكاتب عنوان إقامته

صنع الله لم يكن يكتب ليرضي الآخرين أو السلطة، فقد كان يكتب كما يختبر المبحرُ صلابةَ الريح في مواجهة كل زمانٍ آتٍ. لم يكن يهادن المعنى ولا يتصالح مع الصمت، بل يترك الكلمات تتقدّم أمامه ككشافات صغيرة في ممر طويل. والذين يكتبون بهذه الطريقة لا يرحلون فعلًا، إنهم فقط يبدّلون العنوان: من صفحة الأرض إلى مكتبة الغيب، وهناك، بين رفوف لا تراها العين، يتركون لنا الكتب كإحداثيات للعثور عليهم، كأنهم يخفون أرواحهم بين السطور بانتظار قارئ يفتح الباب.
حاولت وأحاول أن أنعيه، لكني وجدت النعي أضيق من حياته، والكلمات أقل من قامته.
وهكذا، لم تكن رواياته سوى انعكاسٍ لذلك النهج: كتابة تواجه، وتكشف، وتعيد ترتيب الأسئلة قبل الإجابات. كتب اللجنة وكأنه يضع مرآة أمام مؤسسة كاملة، مرآة تصرّ على أن تُظهر خلفية المشهد لا واجهته؛ وكتب ذات ليضع حياة امرأة في مواجهة بلد بأسره، بكل ما فيه من تاريخ، وشوارع، وملامح عابرة على شاشة الأخبار؛ وكتب شرف ليكشف أن السجن الحقيقي ليس خلف القضبان فقط، وإنما يختبئ في عقل السلطة وأخلاقها، في نبرة الأوامر أكثر مما في صرير الأبواب الحديدية.
ثم، في لحظة من لحظات الحقيقة النادرة، تلك اللحظات التي تختبر الفرق بين المثقف العضوي والمثقف التائب، رفض جائزة الدولة أمام وزيرها، وحوّل الاحتفال إلى محاكمة علنية للشرعية الزائفة، وكأنه يضيف فصلًا جديدًا إلى رواياته، فصلًا بلا ورق، كُتب في الوجوه المندهشة والقلوب التي انتفضت في القاعة.
إن رحيل صنع الله إبراهيم ليس غيابًا بقدر ما هو إعادة توزيع لحضوره: بعضه يبقى في الذاكرة الشخصية، في حكاية أو لقاء أو جملة عابرة، وبعضه يستقر في النصوص التي نعرفها عن ظهر قلب، وبعضه يظل في السؤال الذي يطرحه علينا بعد رحيله: هل نحن على قدر ما نقرأ؟
***
إبراهيم برسي