أقلام ثقافية

لمى ابوالنجا: يوم الأحد

لم تعد تكفيني كل الاحترازات الوقائية من التأمل، الاسترخاء، تذكير نفسي بإنجازاتي، التفكير فيمن أحب، مشاهدة الأفلام الكوميدية، أو قراءة قصص النجاح — كل ذلك لم يعد يحول دون تعكر المزاج أو ضيق الخُلق.

بل أكثر ما يثير اشمئزازي حقًا هي تلك الفيديوهات المتكاثرة كالأعشاب الطفيلية في صفحات التواصل:

“أنت تستطيع! القرار بيدك!”

“لا يوجد فشل، بل محاولات فاشلة.”

“هل تريد أن تقضي حياتك بلا دخل ثابت؟”

صور سيارات وطائرات وشواطئ وحقائب ماركات عالمية… كأن السعادة تُشترى بالتقسيط.

أعتبر هذا النوع من التحفيز إساءة عاطفية مقنّعة أكثر مما هو دافع. هذه النماذج العشوائية تنجح بالصدفة المحضة، مثل نبتة تنمو بين الصخور لتغري البقية بالهلاك في الطريق نفسه.

إنهم يروّجون لاحتمالات ضئيلة ويتجاهلون الأكثر شيوعًا:

أن تتخيل نفسك ناجحًا وتبني أحلامك على سراب فينكشف الرمل تحت قدميك؛

أن تستثمر كل ما تملك بحثًا عن مجدٍ يشبه السراب، ثم تجد نفسك غارقًا في ديونٍ لا مفرّ منها.

وفي نظرهم — ان حدث ذلك — أنت فاشل، كسول، بلا طموح، بلا قيمة.

لتصبح فوق همّك وفقرك محتقراً لنفسك لأنك لم تدخل سباقًا لم يكن مهيّأً لك أصلاً.

على كل حال، هو يوم الأحد هكذا ببساطة، يأتي دائمًا ملتصقًا باكتئابه.

اكتئاب الأحد يشبه اكتئاب الشتاء، لكنه أكثر دهاءً، يتسلل خفيفًا، يغيّر المزاج بلا استئذان، حتى يغدو حملًا ثقيلاً على الروح دون أن ننتبه أن هذا الكآبة الصغيرة المشاكسة العابرة كانت شقًّا في الجدار.

لهذا قررت التسليم والمضي قدمًا، دون مقاومة. أعددت طقوسي الخاصة لاستقباله:

أن أظل في الفراش أطول وقت ممكن، أصارع معضلتي الوجودية قبل أن يرن المنبه.

وصلت المكتب في السابعة والنصف.

رميت سلسلة المفاتيح على الطاولة، أخرجت ملعقة شاي حديدية من الثلاجة لأضعها على جفوني المنتفخة، وإذا بأحد الجراحين — الأكثر لطفًا في التاريخ — يعود بعد أن غادر المكتب وكأنه نسي شيئًا، وقال مبتسمًا:

“لمى، صباح الخير… نسيت أعد لك كوبك، تعالي خذي قهوتك.”

شكرته وقلت:

“هل تعلم يا دكتور، هذا الكوب من القهوة الكولومبية يساهم في إعادة ضبط معتقداتي، أشكرك على تلك اللفتات الصغيرة اللطيفة كل صباح.”

رن الهاتف: زميلتي تتصل.

لم أرغب بالرد رغم لطفها معزتها في قلبي، لكن طلبات عملها دائمًا كارثية.

بعد الرنّة الخامسة استسلمت، رفعت السماعة.

ومباشرة قالت:

“لمى، تسمحي لي قبل أطلب شغل أتحلطم؟ أفضفض؟ من الصبح وأنا أشتم داخليًا!”

ضحكت وقلت:

“تكلمي… مزاجي أسود أساسًا، لن تسوّديه أكثر.”

بدأت تسرد معاناتها مع التنمر، اللامهنية، المحسوبية، الابتزاز النفسي. قصص جديدة بوجوه قديمة. هذه الكائنات تتكاثر وظيفيًا كالفطريات السامة، تنسخ نفسها في كل قسم ومؤسسة دون رادع.

بسبب ما مررت به من صراعات قديمًا وحديثًا، صرت أرى الأشياء ببرود الحكماء. شعرت في تلك اللحظة كأنني راهبة أثقلتها الدنيا، فاختارت صومًا صامتًا في جبل بعيد، لا تطيق ضجيج الناس ولا ضوضاءهم.

بعد شكواها، سألتني:

“هل آخذ إجازتي السنوية الآن أم أؤجلها؟”

أجبتها:

“هل رأيتِ إعلان وفاة زميلنا المرسل قبل دقائق في الإيميل؟”

سكتت لحظة، ثم قالت بخفوت:

“نعم!.”

قلت:

“تعرفينه؟”

قالت:

“لا، لكن الله يرحمه.”

رددت:

“تمامًا… هكذا يُختصر الإنسان عندما ينسى نفسه:

يُذكر في بريدٍ جماعي، ثم يُعلن عن شاغرٍ في وظيفته بعد ساعات.

اعملي بجد، راعي الله في أدائك، لكن ما إن يبدأ العمل في سحب روحك، توقفي فورًا.

لا تبتغي امتنانًا في عيون من لا يرى أصلاً.”

كان كلامي صدمة لها، لكنها انتعشت به، كمن تلقى لطمة صحوة. شكرتني بحرارة، ختمت كلامي:

“استمتعي بإجازتك، وأي عمل متوقف بسببي سأنجزه عنك.”

قد أبدو سوداوية كما يشاع عني، وربما أنا كذلك. لكني أرى نفسي واقعية تحب الحقيقة مهما كانت داكنة.

وما يظنه الناس سحرًا في كلماتي التي تبلسم الجراح، ليس سحرًا أبدًا —

إنه ببساطة أنني أحتضن جراحهم كما هي، لا أجمّلها ولا أخجل منها.

أقبلهم ناقصين، متعبين، غير عظماء، ولا أغنياء ولا يجب أن يكونون كذلك.

***

لمى ابوالنجا

 

في المثقف اليوم