أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: حوار ميليان ثيوسيديدس والعدالة في العلاقات الدولية

قبل اكثر من 2500 سنة، عرض المفكر والمؤرخ اليوناني ثيوسيديدس طريقتين متعارضتين للتفكير حول السياسات الدولية. هل يجب ان ترتكز تلك السياسات على العدالة ام انها تبقى الى الأبد ميدانا لصراع القوى. في الفلسفة السياسية للعلاقات الدولية، هناك تمييز واسع يُطرح بين فريقين: "الواقعيين" الذين يتنبأون بصراع دائم على المسرح الدولي، و"المثاليين" الذين يؤكدون على التعاون.

يميل الواقعيون للتعاون طبقا للافتراضات التالية:

1- الكائن البشري بطبيعته يهتم بالمصلحة الذاتية. بهذا فان الامم المؤلفة من بشر سوف تتعاون فقط لأجل مصالحها الذاتية.

2- المصلحة الذاتية للامة ترتبط جوهريا بأمنها. ونظرا لعدم وجود سلطة شمولية واقعية او قوة قادرة على فرض القانون الدولي فان الامم سوف تسعى جادة لتدعيم وترسيخ قوتها من خلال إضعاف الامم الاخرى.

3- الأخلاق والعدالة والقواعد ليس لديها سلطة او مكان في "فوضى" العلاقات الدولية: انها مفيدة لغرض محدد فقط بالمصلحة الذاتية للامة. الموقف الواقعي الوحيد المقبول هو القوة.

المثاليون، بالمقابل، يناصرون ويدعون الى قيم مثل القانون الدولي والأمن الجماعي وحق تقرير المصير القومي والايمان بان العدالة اذا تعرضت للتهديد في أي مكان من العالم فذلك يشكل تهديدا للعدالة في كل مكان. وعلى المدى البعيد، يقول المثاليون، انه من مصلحة كل طرف حتى في الامم الأكثر قوة، ان تستند السياسات الدولية على قواعد مشتقة من مبادئ العدالة. أحد أقدم الأمثلة على النقاش بين التصوّر الواقعي والمثالي للعلاقات الدولية يأتي من تاريخ ثيوسيديدس لليونان القديمة (تاريخ حرب البيلوبوميسيا). حوار ميليان لثيوسيديدس، يشكل جزءاً هاما من التاريخ، فيه يربط أحداث عام 416ق.م، عندما غزت أثينا جزيرة ميلوس – الجزيرة الصغيرة في بحر ايجه.

يعرض ثيوسيديدس منطق الاثنيين الذين ركزوا على تصوّر "واقعي" للعلاقات الدولية. من الصواب ان يحتلوا ميلوس، لأن عمل كهذا سوف يقوّي أمنهم ويرسل رسالة للجزر الاخرى في المنطقة مفادها ان: أثينا لا ينبغي العبث بها.

يبدأ الحوار بمبعوثين من أثينا يجادلون الميلانيين بان الخيار الوحيد أمامهم هو اما الموت او الاستسلام. يقول المبعوثون لا تلجأوا للعدالة في مواجهة قوتنا، لأن مثل هذا اللجوء غير ملائم. فكروا فقط في بقائكم:

(نحن كلانا نعرف ان قرارات العدالة تُصنع في النقاشات البشرية فقط عندما يكون كلا الجانبين تحت إكراه متساوي، لكن عندما يكون أحد الجانبين أقوى، سيحصل على اكبر ما يستطيع، والضعيف يجب ان يقبل بذلك.)

الميلانيون لا يرون الخيار بين التدمير والاستسلام، هم يرونه بين الخضوع او الحرب. هم يحبون وطنهم، ولايريدون التخلي عن حريتهم: رغم كونهم الأضعف عسكريا، لكنهم يعلنون عن نيتهم في الدفاع عن أنفسهم.

وبينما أكّد الاثنيون لخصومهم بان لا فائدة هناك من اللجوء الى العدالة، وان يسترشدوا فقط بالمصلحة الذاتية والبقاء على قيد الحياة، كان الميلانيون يرون ان مبادئ العدالة مرتبطة بشكل وثيق بالمصلحة الذاتية:

(من وجهة نظرنا"طالما انتم تجبروننا لترك العدالة خارج الحساب وحصرنا في المصلحة الذاتية" – نرى انه من المفيد انكم لايجب ان تحطموا مبدأً يخدم الصالح العام لجميع البشر، أي انه متى ما وقع خطر على أي طرف يجب ان يكون هناك شيء من التعامل العادل والمعقول، ويجب السماح للناس باستخدام الحجج التي لا تصل الى مستوى الدقة الرياضية والاستفادة من تلك الحجج . وهذا مبدأ يؤثر عليكم بقدر ما يؤثر على أي شخص آخر، لأن سقوطكم سوف يؤدي الى انتقام رهيب وسيكون مثالا للعالم).

يطرح الميلانيون سؤالا، اذا انهارت الامبراطورية الأثنية، أي أمل يبقى للاثنيين في التعامل العادل، اذا لم يلتزموا هم أنفسهم بالمبادئ العادلة؟

الاثنيون بقوا دون حراك امام الحجة الميلانية واستمروا في سعيهم للاستيلاء على الجزيرة. بالنهاية، هم اخطأوا الحساب، حيث أفرطوا في تقدير قوتهم وهُزموا في حرب البيلويوميسيا من جانب سبارطا.

وكما يلخص الخبير جوليان كوراب كاربوفيتش في (الواقعية السياسية في العلاقات الدولية):

(الاثنيون المخمورون بأمل المجد والكسب، بعد استيلائهم على ميلوس، انخرطوا في حرب ضد سيسلي. هم لم يولوا أي اهتمام لحجة ميلان بأن اعتبارات العدالة مفيدة للجميع في المدى البعيد، وعندما بالغ الاثنيون في تقدير قوتهم خسروا في النهاية الحرب، منطقهم في المصلحة الذاتية أثبت في الحقيقة انه قصير النظر للغاية).

وبينما لايبدو ثيوسيديدس يفضل الشكوكية الأثنية او مثالية ميلان، فان احد الدروس الكبرى لتاريخ حرب البيلوبوميسيا هي ان،القوة التي تُترك بلا رادع تقود حتما الى رغبة جامحة بمزيد من القوة بحيث يصعب التحكم بها (1).

يلاحظ كوراب، في حالة عدم التقيد بالإعتدال او بمعنى العدالة، " لن تكون هناك حدود منطقية لحجم الامبراطورية".

العالِم في السياسة الدولية جاك دونلي، في كتابه الواقعية والعلاقات الدولية، يستنتج ان ثيوسيديدس يحذرنا لنحمي أنفسنا من كل من "الأحلام الساذجة حول السياسات الدولية" بالاضافة الى "إفراط الآخر الخبيث: السخرية وعدم الثقة الجامحة".

مع ان ثيوسيديدس كتب تاريخ حرب البيلويوميسيا قبل 2500 سنة تقريبا، لكن تمييزه بين هذين الاسلوبين من التفكير لازال يطلعنا اليوم على التصورات المتضادة للعلاقات الدولية:

 1- الشيء الوحيد المقبول على المسرح العالمي هو القوة.

2- الامة التي تتصرف بشكل غير عادل تتجاهل مصالحها وأمنها في المدى الطويل.

 *Philosophy Break, March2025

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

(1) بناءً على ملاحظات ثيوسيديدس "كان صعود اثينا والخوف الذي أثاره في سبارطا جعل الحرب بينهما حتمية. عالِم السياسة الامريكي غراهام اليسون 2011 استعمل عبارة (فخ ثيوسيديدس) لوصف النزعة نحو الحرب عندما تتحدى قوة صاعدة (مثل اثينا) مكانة القوة المهيمنة السائدة (مثل سبارطا). هناك عاملان يساهمان في تغيير ميزان القوى بين الخصمين. القوة الصاعدة الطموحة التي تحتاج بشكل مباشر او غير مباشر الى مصادقة والى صوت اكبر ومكان ستراتيجي في العلاقات الدولية، يقابل ذلك خوف القوة الحالية وتصميمها على الدفاع عن الوضع الراهن. اليسون توسّع في هذا في كتاب له عام 2017 بعنوان (متجهون للحرب) جادل فيه ان الصين والولايات المتحدة حاليا في مسار التصادم نحو الحرب. هذه الحرب مع انها ليست حتمية لكن يصعب تجنبها وتتطلب انتباها وجهدا دبلوماسيا مكثفا.

 

في المثقف اليوم