أقلام فكرية

عبد الحليم لوكيلي: في السؤال الفلسفي (2)

في الفرق بين الإشكال الفلسفي والمشكلة (أو الإشكالية) الفلسفية

خلصنا في المقال السابق إلى أن السؤال الفلسفي يختلف اختلافا جوهريا عن السؤال العادي أو العامي، سواء من حيث طبيعة السؤال أو من حيث مضمونه والغاية منه. واستمرارا في هذه الإضاءات المفاهيمية حول بعض المعدات التي لا مناص للمشتغل بالفلسفة في أن يكون على إلمام واطلاع بها، سنحاول في هذا الصدد أن نبين الفرق بين الإشكال الفلسفي والإشكالية أو المشكلة الفلسفية. وعليه؛ ماذا نعني بالإشكال الفلسفي (Le problème philosophique)؟ وما أبرز سماته وخصائصه؟ وما المقصود كذلك، بالإشكالية أو المشكلة الفلسفية La problématique philosophique)؟ وما سماتها وخصائصها؟

لعل أبرز ما يمكن أن نعرف به الإشكال الفلسفي هو أنه «قضية استفهامية تقتضي الإجابة عنها استحضار أطروحات علمية وفلسفية». مثال ذلك، القول: هل الدولة عادلة أم ظالمة؟. فالقضية هي الدولة عادلة أم ظالمة، وأداة الاستفهام هي كلمة "هل"، وعلامة الاستفهام هي "؟". وإذا بدأنا بتحليل أداة الاستفهام "هل"، فإنها أداة تحيل إلى نمط من الإشكالات المعرفية والفكرية التي تتطلب ليس إجابة واحدة ممكنة، بل إجابتين أو أكثر. ذلك، أن كلمة "هل" هي أداة استفهام تدفعني إلى الإجابة إما بالإيجاب أو السلب. بمعنى، إما تأكيد ما جاء في القضية كون الدولة عادلة أو نفي ذلك، أي اعتبارها ظالمة، بالرغم من أنه يمكن الذهاب نحو احتمال ثالث مفاده التأكيد والنفي في الأن نفسه؛ أي اعتبار الدولة عادلة في سياقات معينة، وظالمة في سياقات أخرى.

إن اعتبار الإشكال الفلسفي إشكالا معرفيا وفكريا يتطلب الإجابة عنه استحضار أجوبة احتمالية متعددة، يبين الفرق بينه وبين السؤال الفلسفي. فالسؤال الفلسفي لا يقتضي منا سوى إجابة واحدة ممكنة، إذ حينما نقول مثلا "ما الدولة؟"، فإن المبتغى هو تقديم تعريف جامع مانع للدولة، دون الخوض في بعض التفاصيل الإشكالية التي تنتج عن المفهوم ذاته، كأصلها وطبيعتها والغاية منها. بينما الإشكال الفلسفي فهو في صيغته التركيبية يقتضي منا إجابتين أو أكثر. ولذلك، نعتبر الإشكال الفلسفي من بين الأنماط التساؤلية الأكثر تعقيدا مقارنة مع السؤال الفلسفي والأسئلة اليومية المبتذلة، وإن كانت لها قيمتها وأهميته في حياة الإنسان والفكر.

جدير بالذكر، أن للإشكال الفلسفي سمات وخصائص يتسم بها، وإن كانت في بعضها شبيهة بما يتميز به السؤال الفلسفي. يتميز الإشكال الفلسفي بكونه قضية استفهامية تتطلب إجابات ممكنة، وليس إجابة واحدة فقط. وإذا كان كذلك، فإن تقديم إجابات ممكنة لإشكال فلسفي معين، لا يعني بأي حال من الأحوال، تداعي ذلك الإشكال وانهياره، بقدر ما أنه يبقى ممتدا في التاريخ الفكري للإنسانية، إذ يتم إحياؤه باستمرار (نتيجة أزمات معرفية وفكرية) لتقديم إجابات أخرى ممكنة، تتماشى والتحولات العلمية والفكرية لكل عصر أصابته أزمة في أسسه المعرفية والفكرية التي كان يقوم عليها. يتسم الإشكال الفلسفي كذلك، بكونه إشكالا له قصدية معرفية وفكرية ومنهجية، وهي قصدية مرتبطة بفهم الإنسان لذاته والعالم الذي يعيش فيه، وهو بذلك يستدعي من الباحث جهدا عقيلا وذهنيا. وإذا كان كذلك، فإن الإشكالات الفلسفية تتسم بسمة الكونية، إذ حينما نقول "هل الدولة عادلة أم ظالمة؟"، فإننا لا نقصد بذلك دولة بعينها، بقدر ما أننا نبحث عن الأسس النظرية التي تفسر لنا ما إذا كانت الدولة عادلة أم ظالمة، مع تقديم شروط تحقق كل سمة على حدة. وإذا كان الإشكال الفلسفي متسم بهذه السمات والخصائص، فما طبيعة الإشكالية؟ وما خصائصها؟

لا تحدد الإشكالية أو المشكلة في كونها قضية استفهامية، لاسيما، وأنها لا تكتب في صيغة استفهام، بقدر ما أننا نعتبرها «قضية معرفية أو فكرية»، كقولنا "مشكلة الدولة"، أو «مشكلة الجور»، "مشكلة الحرية".. إلخ. وبهذا المعنى، يمكن القول إن الأسئلة الفلسفية والإشكالات الفلسفية، يتم استنباطها من المشكلات المعرفية والفكرية. فإذا انطلقنا من مشكلة الدولة، فإنه يمكن تفريع هذه المشكلة بوصفها قضية معرفية وفكرية إلى أسئلة (ما الدولة؟) وإشكالات (هل الدولة عادلة أم ظالمة؟) فلسفية.

استنادا إلى ذلك، يمكن حصر السمات والخصائص التي تتميز بها المشكلة أو الإشكالية في العناصر التالية: أولا؛ ليست المشكلة قضية استفهامية، بل قضية معرفية وفكرية فقط. ثانيا؛ بما أن المشكلة أو الإشكالية قضية معرفية، فإنها لا تقتصر على إجابة واحدة أو إجابتين، بقدر ما أنها مفتوحة على كل الأفاق البحثية الممكنة. ثالثا؛ تتسم المشكلة أو الإشكالية بكونها ذات قصدية معرفية وفكرية تهم الإنسانية جمعاء. رابعا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتدفع الذات الباحثة نحو مجهود عقلي وذهني، بغية الكشف عن بعض الأجوبة الممكنة. خامسا؛ كل مشكلة أو إشكالية إلا وتتسم بالكونية، ما دامت رهينة ولصيقة بالإنسان.

***

د. لوكيلي عبد الحليم - أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم