أقلام فكرية
حيدر عبد السادة: فوكو وما بعد الحداثة

إذا كان نيتشه قد عدَّ الغالق الحقيقي لبوابة الحداثة، فإن فوكو الفاتح الحقيقي لبوابة ما بعد الحداثة
كشف التطور التكنلوجي في مجال العلم، بؤس المناهج الفلسفية والأنساق المعرفية التي كانت متاحة عند فلاسفة العصر الحديث، وهذه المفارقة قد أوجدها فلاسفة ما بعد الحداثة، حيث أدركوا أن المناهج الفلسفية لم تعد تواكب ديناميكية العلوم وصيرورة الفكر العلمي، فضلاً عن النتائج اليقينية والقطعية التي ينتهي إليها العلم. والجانب الرئيسي والحاسم في مجال تبديل المنهج يكمن في عملية الانتقال من العلوم الميتافيزيقية إلى العلوم الفيزيقية. ومن أجل ذلك سعى فلاسفة ما بعد الحداثة إلى إعادة صياغة للمناهج المستعملة في مجال الفلسفة، فمنذ النقد النيتشوي لمسلمات العقل والدين والأخلاق، وهي المرحلة التأسيسية لفتح المجال لتيار ما بعد الحداثة، مروراً بفينومينولوجيا هوسرل، وحتى البنيوية وغيرها، بدأ المنهج يأخذ مجالاً آخراً عما سبق، ونتيجة لهذه الحاجة الماسة في المنهج، خرج صاحبنا فوكو بأهم افرازات الفكر الغربي في المنهج، وهو المنهج الأركيولوجي.
وهو من الناحية اللغوية يتكون المصطلح من شقين، (arche)، وهي مفردة يونانية تعني القديم، و(logy)، وتعني علم، ليصبح معناه اللغوي (علم الآثار)، وهو فرع علمي يعنى بدراسة آثار الحضارات القديمة، أو هي علم النقوش والآثار المندثرة، ظهر المصطلح لأول مرة في كتابات فوكو في (تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، وكتاب (مولد العيادة)، الذي ظهر بطبعته الأولى تحت عنوان (اركيولوجيا النظرة الطبية)، وكذلك جاء كتاب (الكلمات والأشياء) كان في طبعته الأولى بعنوان (اركيولوجيا العلوم الإنسانية). ومما تجدر الإشارة إلى عدم وجود أي علاقة بين الاركيولوجيا بوصفها علم يبحث في الآثار، وبين استخدام فوكو وتوظيفه لهذا المصطلح، ففوكو لا يبحث في الآثار في مجال المعرفة ليعيد بناء ماضي المعرفة الإنسانية، وإنما يبحث في جملة القواعد بعدّها شروطاً لإمكان ظهور المعارف في فترة تاريخية معينة.
وعن طريق الأركيولوجيا بحث فوكو في تاريخ الفلسفة، ففي إحدى محاولاته الحفرية، يؤكد فوكو على إن عصرنا كله، سواء من خلال المنطق أو من خلال الأبستمولوجيا، وسواء من خلال ماركس أو من خلال نيتشه، عصر يحاول أن يفلت من هيغل، وما حاولت أن أقوله من قبل بصدد الخطاب ليس وفيّاً للوغوس الهيغلي. ولكن أن يفلت المرء فعلاً من هيغل، فهذا أمر يتطلب تقديراً مضبوطاً لما يكلفه الانفصال عن هيغل، وهذا يقتضي أن نعرف ما الذي ما يزال هيغلياً، ضمن ما يمكننا من التفكير ضد هيغل، وأن نقيس القدر الذي يحتمل فيه أن يكون سعينا إلى مناهضة خدعة ينصبها في وجهنا وهو ينتظرنا في نهاية المطاف هناك هادئاً. وليس فوكو فقط من اتخذ هذا الموقف ضد الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، فأول من أسس لهذه الثورة هو الفيلسوف الدنماركي سورن كيركيغارد، وبعده جاء صاحب المطرقة، أقصد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ليحطم المرحلة الحديثة لتاريخ الفلسفة، وبدون شك أن هذه المرحلة تشكلت وبإسهامٍ كبير مع هيغل، وحتى برتراند رسل، لديه موقف جدُّ متطرف من فلسفة هيغل، حيث يسمي منهجه الذي بنى عليه فلسفته، أي الدياكتيك بــ جرثومة هيغل.
وتمثل الأريكيولوجيا محوراً هاماً في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، فقد كانت الانطلاقة من الفتوحات البنيوية في مجال الأنثروبولوجيا والتحليل النفسي واللسانيات، إلا ان فوكو لم يبق رهين المنهج البنيوي، بل قام بتجاوز البنيوية وحتى انتقادها والتنكر لها، ليقدم مشروعاً أسماه بالمشروع الحفري النقدي. وهنا تثار مشكلة التصنيف لفوكو، فمن جهة هناك العديد من الدراسات تنسب فوكو صفة البنيوية، وينفي فوكو من جهة أخرى إلحاق هذه الصفة به. فيقول فوكو: لا أرى من يمكن أن يكون مضاداً للبنيوية أكثر مني، لكن ما هو مهم ألا نفعل بالحدث ما فعلناه بالبنية، إذ لا ينبغي أن نضع كل شيء في مستوى واحد هو مستوى الحدث، بل ينبغي أن نعتبر أن هناك سلماً من أنماط الأحداث المختلفة التي ليست لها نفس الأهمية، ولا نفس الامتداد الزمني ولا نفس القدرة على إحداث تأثيرات.
وقد حاول فوكو من خلال اركيولوجيته أن يؤسس مشروعاً فلسفياً متكاملاً، ليست غايته البحث عن الحقيقة وتتبعها، بل إن الغاية الأساسية من الأركيولوجيا تتمحور في تقويض فكرة الحقيقة في مختلف مجالاتها، خصوصاً وإن التغيرات التي شهدها العالم في القرن الماضي، كانت ضرورة ملحة لتغيير النهج الفكري في مستوياته المختلفة. وبالتالي، كانت اركيولوجيا فوكو منهج يهدف إلى الكشف عن القواعد التي تسهم في تشكيل الخطاب في حقبة تاريخية معينة وأشكال ظهوره وانبجاسه والكيفية التي يمارس بها دون الاهتمام بمضمون الخطاب، وإنما بما يشكله، فهو يسعى لرسم حركة التعاقب وانماطه وصيغه المختلفة التي يتخذها، والمستويات المختلفة للتحولات إنها تبحث عن القطائع والانشقاقات والتصدعات وتقوض منطلقات التاريخ بحلته التقليدية، فهي منهج يكرس للاختلاف، وممارسة تكشف وتميط اللثام عن أنماط تكون الخطابات وتعاقبها وتشابكها.
وتوجه الحفر الأركيولوجي نحو مجموع الممارسات الخطابية وغير الخطابية، معتمداً على تفكيك الشفرة اللغوية التي توارت خلف الخطابات بتعدد مستوياتها؛ بمعنى أن اللغة كانت ذات أهمية بالغة في النقد الفوكوي للحضارة الغربية.
***
د. حيدر عبد السادة جودة