أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: هل هناك طرق اخرى للمعرفة؟

في عام 2014 جرت محادثة حول حدود العلم في جامعة غنت Ghent البلجيكية بين الفيلسوف الامريكي دان دينيت Dan Dennett والفيزيائي لورنس كراوس Lawrence Krauss والمراسل العلمي لمجلة الفلسفة الان ماسيمو بيجلوتشي Massimo Pigliucci . حيث برزت حينذاك قضية احتمال وجود طرق اخرى للمعرفة بجانب الطريقة العلمية المعروفة. جميع المتحدثين الثلاثة رغم الاختلافات الهامة بينهم حول العلم وعلاقته بالفلسفة، رفضوا فورا هذه الفكرة واعتبروها سخيفة. لكن في لحظات من التفكير سيتبيّن انه بالطبع توجد هناك طرق اخرى للمعرفة اعتمادا على ما يعنيه المرء بـ "الطرق" و "المعرفة". فمثلا، الجميع متأكدون من معرفتهم بان الارض تدور حول الشمس وليس العكس. والكل ايضا يعرف ان الجذر التربيعي للرقم 9 هو 3. مع ذلك، ما نعنيه بـ "يعرف" في هذين المثالين هو بالتأكيد ليس ذات الشيء. النوع الاول هو اكتشاف تجريبي مشتق من ملاحظات حول العالم، اما الثاني هو خاصية معروفة استنتاجيا لطريقة معينة من ربط المفاهيم "3"، "9" و "جذر تربيعي". لذا فان المعرفة الرياضية ليست نفس المعرفة التجريبية، وبالتالي الرياضيات هي في الحقيقة طريقة مختلفة للمعرفة عن العلوم.
قضية مشابهة يمكن ملاحظتها لو ركزنا على المنطق بدلا من الرياضيات. (نعم، الاثنين مرتبطان بعمق لكن من غير الواضح ان كان احدهما شكلا للآخر او ما اذا كان الاثنين أعضاء في شكل واسع لمعرفة غير تجريبية. رهاننا هنا هو على الأخير). فمثلا، لو باشر احدنا الدراسة في كورس تمهيدي في المنطق فهو سوف يعرف – وربما يتبيّن له – ان طريقة تولينز modus tollens (1)هي شكل صالح للاستدلال. نحن ربما نعرف ايضا ان "تأكيد النتيجة" هي مغالطة منطقية. كل هذه المعرفة ليس لها جذور في التجريبية، وحتى هناك القليل من المعرفة التجريبية التي نستطيع تسميتها علم.
الأشياء تصبح أقل غموضا عندما نكون أكثر حزما في دخول عالم التجريبية. هل كل المعرفة التجريبية مساوية للعلم، وبالتالي تبرير إجماع التفسير المقيد لدينيت - كراوس – الذي ذكرناه أعلاه؟ ماذا عن الحدس، مثلا؟ نحن لا نعني هنا الحاسة السادسة التي يعتقد البعض انهم يمتلكونها، نحن نعني الحدس كنوع من المعالجة السريعة اللاواعية للمعلومات التي درسها السايكولوجيون مثل دانيال كنهمان Daniel Kanheman لفترة طويلة. ذلك النوع من الحدس يرقى الى مخزن لمجال معرفي خاص جاهز للاستعمال والذي غالبا معظم الناس غير واعين بامتلاكهم له. عندما يعرف لاعب كرة القدم أحسن طريقة لخلق منحنى خطير للكرة لخداع حارس المرمى، او عندما يعرف خبير الشطرنج ان حركة معينة ستخرجه من الموقف الصعب، فهما يكونان قادرين على توضيح منطقي لسبب قيامهما بذلك العمل، لكن القيام بذلك العمل العفوي غير المخطط لم يكن نتيجة تجارب وملاحظات منهجية، او مؤطر بنوع من التفكير النظري الذي نتوقعه من العالِم. انه كان نتيجة لطريقة مختلفة من المعرفة تماما. هناك ايضا ما يسمى "معرفة تجريبية يومية"، مثل حقيقة ان احد يعرف كيف يتنقل في مترو انفاق نيويورك (وليس لندن)، ببساطة لأنه يعيش في نيويورك واكتسب المعلومات الضرورية عبر وسائل عادية جدا (خرائط، سؤال الناس). تلك المعرفة لا يجب ان توصف بالصفة الرفيعة "علمية" حتى عندما تكون بالطبع معرفة تجريبية، ومفيدة، لمن يعيش او يزور مدينة نيويورك.
وهناك المزيد من الحالات الاخرى. تجربة فينومينولوجية قد تُعد كمعرفة ايضا: نحن نعرف ما يشبه الشعور بالألم او ارواء العطش او عدد من الاحاسيس الاخرى، والذي قد يحصل لكل شخص . لكن هذه المعرفة، اذا كنا حقا نريد تسميتها كمعرفة، فهي ليست نتيجة للدراسات العلمية. انها نتيجة للماكنة البايولوجية الاساسية التي نمتلكها كلنا منذ الولادة (انتقال للطفرات او عجز تطوري). انها ليس لها معنى منطقي ولا علمي ايضا، ومع ذلك لاتزال تشكل نوعا من معلومات موثوقة نمتلكها حول العالم. وكما اتضح، ان القليل من التأمل يبيّن ان هناك عدة طرق اخرى للمعرفة بجانب الطريقة التي يوفرها العلم. لا توجد واحدة هي "الافضل" او "تتجاوز العلم"، وبالتالي لا تؤدي الى أي راحة لمن يعرضون حديثا غير نزيه او معلومات غير موثوقة. كل واحدة لها مجالها الملائم للتطبيق، وبالطبع هناك الكثير من مجالات التداخل والتفاعل. المتحدثون الثلاثة كانوا سريعين جدا في الحكم وتجاوز ما هو ملائم اثناء تلك المحادثة.
***
حاتم حميد محسن
.......................
الهوامش
(1) هي طريقة للاستدلال الاستنتاجي من اقتراح افتراضي طبقا له اذا تم انكار النتيجة فان المقدمة يتم انكارها ايضا (اذا كانت س صحيحة فان ص صحيحة، لكن ص هي كاذبة لذلك فان س هي كاذبة). مثال على ذلك: الملك يجب ان يكون لديه تاج، عدم وجود تاج يعني هو ليس ملكا. الطريقة تسمى طريقة الانكار لأنها تستلزم انكار النتيجة لغرض انكار المقدمة.