أقلام فكرية
أسعد عبد الرزاق: قراءة في ازمة المثقف الديني النقدي

من هو المثقف الديني؟
اصبح مفهوم المثقف غامضا ومشوشا، ومفهوم المثقف الديني أشد غموضا، لأنه قلما يجري استعماله، والمثقف النقدي هو المثقف الذي ينبغي أن يكون رقيبا على ما يشاهد في الواقع ورقيبا، على ما يقرأ في صفحات الكتب وغيرها، وهذا النموذج من الضروري أن يكون حاضرا بكل أشكاله، وذلك بطبيعة الحال لا يمنع من ملاحظة بعض المشكلات، وهذا الوظيفة (الرقابة)، من شأنها أن تتكفل ببيان معنى (المثقف)، من حيث الغرض والوظيفة، لا من حيث الذات والهوية..
المثقف الديني النقدي هو شخصية فكرية تنشأ في المسافة بين المرجعية الدينية والخطاب الثقافي العام، إذ لا يكتفي بالاستيعاب أو الترديد لما هو موروث، بل يمارس دورًا تفكيكيًا وإعادة بناء للخطاب الديني في ضوء العقل والواقع.
نتحدث عن المثقف الديني العربي فحسب..، لأننا بين ظهرانيهم، وجزء منهم، وفيهم، وبينهم..
يذكر عبد الجبار الرفاعي أحد مشكلات المثقف الديني العربي في مقدمة كتابه: (مفارقات واضداد في توظيف الدين والتراث)، وهو يتحدث عن بعض المفارقات بين الفكر الايراني والفكر العربي في سياق تعامل كل منهما مع الفلسفات الشرقية، ومجال الفلسفة في جانبها الميتافيزيقي فيقول: (يتميزُ الفكرُ الإيراني الحديث غالبًا بغطاءٍ ميتافيزيقي، خلافًا للفكر العربي الحديث الذي يكون متمردًا غالبًا على الميتافيزيقا، حتى الفكرُ الديني العربي لا يرتدي ذلك الغطاءَ الميتافيزيقي بهالته الرمزيةِ والعرفانيةِ وإيحاءاته الفلسفية)1، واستوقفني هذا القول من جهات متعددة:
أولا: ليس بالضرورة أن أتفق تماما مع هذه المفاصلة والفرق بين الفكرين الإيراني والعربي.
ثانيا: إلى درجة ما اتفق في أن المثقف العربي يبالغ في يساريته ونقده، بالنحو الذي يجعله في الغالب عازفا عن الدين أو التدين..
ثالثا: مما يؤيد ذلك أن المثقف الديني العربي ذو ذائقة أدبية متسلح بالفصاحة والبيان، وهذا ما يجعله بنحو ما مختلفا عن المثقف الديني الإيراني الذي يتاثر غالبا بالأدب الصوفي والعرفاني..
رابعا: المثقف الديني العربي اليساري، تُعرف يساريته من خلال تنكره أو نقده لكل ما هو غيبي، وهذا ليس شيئا ملازما للنقد لدى كل نماذج الثقافة في العالم..، بحيث تشكل هذه الخصيصة عقدة ما في نفسه، تجاه كل خطاب محفوف بذكر بعض عناصر الغيب..
ماهي مقومات تكون المثقف الديني النقدي؟
يمكن اجمالها في:
اولا: مقومات بنوية: ثمة مقومات تدخل في بنية وتكوين المثقف:
1- مستوعبا للتراث الديني، ومناهج فهمه.
2- متحررا من عقد القطيعة مع التراث، وإلا أصبح مثقفا غير ديني، لأن النقد الديني لا يمكن أن يكون دينيا وفي الوقت نفسه مقاطعا للتراث الديني، إذ يتطلب النقد الديني أن ينقد المعرفة الدينية بمعايير مشتركة، وإلا خرج عن كونه نقدا إلى كونه خطابا مقابلا.
3- مرجعيته العقل والبرهان، وهذا يجعل منه مؤثرا في السياق الاستدلالي الديني.
ثانيا: مقومات وظيفية: ثمة مقومات تتعلق بوظيفة المثقف:
1- أن يكون في مقام الملاحظة والتفسير والنقد لا في مقام التغيير والفعل، فليس من شأن المثقف الديني أن يتصدى محل رجل الدين أو المؤسسة الدينية، وإذا أراد أن يحفظ عنوانه كمثقف ديني يمكن أن يكون فاعلا في السياق المعرفي، الذي يتضمن الملاحظة وتشخيص الثغرات، ومراقبا بنحو موضوعي، أما إذا أراد أن يبادر إلى تصحيح أو تقديم معرفة بديلة، فيقوم بذلك لا بوصفه مثقفا، بل بوصفه باحثا مختصا، أو أي صفة أخرى تمتلك مقومات الفعل والتغيير..
2- أن يكون مراقبا ورقيبا على الواقع من جهة، وما ينتجه الخطاب الديني من جهة أخرى، لأن مخرجات الخطاب تحدث متغيرات في الواقع، وهو مما يندر أن تتم ملاحظته من قبل الباحث المختص، فيعمل المثقف الديني على ملاحظة مدى انسجام الخطاب والمعرفة الدينية مع مجريات الواقع.
3- متواصلا وحاضرا مع مختلف الفئات، لأن التواصل والحضور ضروري في تكوين شخصية المثقف، وهو ما يوفر له مكنة الملاحظة، وملامسة مجريات الواقع.
٤- النقد من الداخل: ينطلق من داخل البنية الدينية، ويملك القدرة على تمييز ما هو ثابت عقائدي أو روحي عميق، وما هو اجتهادي أو تاريخي قابل للنقد وإعادة القراءة.
٥-المنهجية الثرية: يوظّف أدوات معرفية متعددة وثرية، من التراث الديني (القرآن، الحديث، الفقه، علم الكلام) ومن العلوم الإنسانية الحديثة (التاريخ، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، الفلسفة)، بنحو يتوخى الدقة في رؤية ثنائية للمجالين، وفرص التخادم بين كل من المجال الديني، والمجال الانساني.
٦- ربط الدين والواقع: من خلال السعي إلى جعل الخطاب الديني أكثر قدرة على الاستجابة لتحديات العصر، بعيدًا عن الجمود أو الانفصال عن الحاجات الإنسانية والاجتماعية.
فالمثقف الديني النقدي فاعل ثقافي يسهم في تشكيل الوعي الجمعي، ليس بوصفه داعية تقليديًا، لأن ذلك من شأن المتخصص، بل ناقدًا ومحرّكًا للأسئلة ومثيرًا للنقاش، بضمير ديني معاصر، يسائل التراث والواقع معًا، في محاولة لتجديد فهم الدين من الداخل، دون أن يقع في فخ العلمنة المتطرفة أو في أسر التقليد الجامد.
***
د. أسعد عبد الرزاق
.......................
1 - ظ: عبد الجبار الرفاعي: مفارقات واضداد في توظيف الدين والتراث: 20 مؤسسة هنداوي