أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: رواقيو ما بعد الحداثة.. الرواقية في أواخر القرن العشرين
ربما من غير المدهش (وبغض النظر عن المشككين) ان الرواقية، التي هي احدى فروع الفلسفة القديمة الأكثر انحرافا وغرابة، يجب ان تجذب انتباه مثقفي أواخر القرن العشرين. حتى افلوطين تحدث عن الرواقية باعتبارها مختلفة جدا لدرجة يجب ان لا تُعد ابداً كجزء من الفلسفة اليونانية. تقليديا اعتُبرت الفلسفة تتجسد بافلاطون وارسطو، وطبقا لافلوطين، الفلسفة اليونانية في جانب، والرواقية في الجانب الآخر.
الوجودية الرواقية: بين الخاص والعام
العديد من المفكرين الاوربيين الحديثين اثاروا السؤال حول ما اذا كانت الرواقية تقدم نموذجا معاصرا لطريقة في الحياة وبنفس الوقت حياة ذات معنى – تقود للسعادة ووعي الذات. فوكو خصيصا اهتم بردم الفجوة بين مجالي المواطنة الخاص والعام من خلال السؤال حول ما اذا كانت علاقات المرء مع ذاته (السؤال المركزي في الفلسفة الرواقية الكلاسيكية) يمكن ان تعمل في نفس الوقت كتكنيك لتحسين الذات وأيضا كممارسة سياسية للمقاومة. طريقة فوكو في الحياة سُميت parrhesia او الحديث الشجاع، والذي يشير الى بطولة فعل التحدث بالحقيقة للسلطات بالإضافة كنوع من أسلوب حياة يمكن ان يزيد سعادة المرء. انها تتضمن الاستمتاع بالذات والاهتمام بشؤون المرء اليومية. انها تنطوي على فلسفة العناية بالذات وأيضا طريقة لممارسة العدالة. يمكن للمرء العناية بذاته وبأصدقائه وعائلته من خلال المصداقية الشجاعة، ويمكن للمرء وبنفس المقدار، ان يستعمل شجاعة الحديث كشكل من التمرد ضد الوضع القائم غير العادل.
يجادل سارتر وبموقف نقدي، ان الرواقية رغم تركيزها على "الحرية المطلقة" والانسحابات الشخصية، يمكن تسخيرها كقوة تساعد في احتضان طريقة عيش أصيلة. عمل سارتر المبكر كان اكثر تسامحا تجاه العقيدة الرواقية، لكن لاحقا اثناء عمله المهني، قرر ان معظم الفلسفة الرواقية كان أيديولوجية للإنفكاك والسلبية والايمان السيء. المبدأ الرواقي الشهير المتعلق بأهمية قول الاختلاف بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد هو ليس صحيحا تماما. ما يبدو من اول وهلة خارجا عن سيطرتنا، كما ينصح الرواقيون، يتبيّن انه شيء يجب ان نواجهه وننخرط به.
دولوز يخصص جزءا من انطولوجيته من خلال تأسيسه على الميتافيزيقا الرواقية. دولوز كان مولعا جدا بالأخلاق الرواقية، وبعض الباحثين اعتقد ان الموقف الأخلاقي الوحيد الجدير بالتقدير هو الموقف الرواقي. ان الموقف المادي في الفلسفة الرواقية يسمح لدولوز بصياغة "اخلاق بدون مبادئ"، أي، موقف أخلاقي نحو الحياة لا يرتكز على دوغما او أي مبادئ متعالية. الاخلاق في رواقية ديلوز الجديدة هي برجماتية مرتكزة على أحداث مباشرة وتجارب معطاة. الاخلاق ملازمة للظروف.
العديد من الباحثين يجادلون ان رواقية دولوز هي رواقية "غير منتهية الصلاحية" تختلف كليا عن الشكل الأصلي. دولوز اشتهر بقراءة الفلاسفة بطريقة تحويلية للغاية. البعض يجادل ان الفلسفات التقليدية حالما تُفسر وفق الطراز الدولوزي، ستحمل القليل من الشبه بذاتها. دولوز ذاته لم ينكر هذا ابدا. هدفه لم يكن الوصول الى "جوهر"، المركز الباطني، او معنى أساسي للعمل الفلسفي وانما ليستخلص منه شيئا جديدا وهاما مع إضافة الحياة والحيوية لأفكاره. التصور الرواقي للحرية، مع انه محدود جدا، هو مع ذلك معقد في مجاله التطبيقي. هو تصوّر حر فقط في قبول او رفض الانطباعات التي تكشفها الطبيعة والوعي. ما نستطيع التحكم به هو كيف نستجيب لما هو خارجي، وليس الخارجي ذاته. الهدف من الانضباط الرواقي هو تحقيق هدوء روحاني.
دولوز يعدّل الموقف الرواقي عبر إضافة عنصر تجريبي. تمارين دولوز الروحية، بصرف النظر عن مساعدتها للفرد في إدارة العواطف والتحكم بها، تسمح له بتكثيف وزيادة كفاءته الإيجابية. لذلك فان مختلف التقنيات تُوجّه بهدف إزاحة الفرد عن مركزيته واكتشاف طرق اخرى جديدة للوجود والتغيير. المحللة النفسانية، الكاتبة والمنظّرة الثقافية جوليا كرستيف Julia Kristeve تقدم تحليلا مقنعا ونقدا للأخلاق الرواقية. تركز كرستيف بشكل أساسي على الفلسفة الرواقية للّغة لتوضيح موقفها. طبقا للرواقية، الكلمة لا تشير الى شيء، اللغة لا تشير الى شيء حقيقي. بل، ان الشكل المكتوب، الجملة، يتم تنسيقهما مع انطباعات الذهن. ان الانطباعات التي نتلقاها من الأشياء هي بدورها تُسمى من جانب دولوز و كرستيف كأحداث. الشخص اما يقبل او يرفض الحدث، وبذلك يمارس حريته. وبالمقارنة، الإشارة المكتوبة، بشكل افتراضي، يمكن استخدامها لتؤدي تحليلات منطقية واستنتاجات، والوصول الى حقائق تفيد صحة الروح.
وبهذا فان المنطق وعلم النفس متداخلان بعمق. لكي نشعر بالراحة، نحن يجب ان نفكر بوضوح، ولكي نفكر بوضوح يجب ان نتصرف وننظّر منطقيا. الهدف هو الوصول الى توازن ذهني مفضل يمكنه إزالة القلق والتأملات غير الضرورية. نحن نستطيع تحقيق هذا عبر فصل ما نستطيع التحكم به عن ذلك الذي لا نستطيع، وبدلا من الرغبة بوقوع أحداث، نحن يجب ان نرغب في الأحداث التي تقع فعلا.
يجب على المرء ان يتماشى مع شبكة سببية عالمية وحتمية تنشأ من إله ينظّم كل الطبيعة. طبقا لعلم الكون الرواقي، ومن خلال الرغبة بوقوع الاحداث، يتعلم المرء التواضع والصمود والإمتنان. المرء يفكر ويتصرف طبقا للطبيعة، يبقى صادقا مع نفسه في الإمتثال لرغبة الله. هذا يفسر كيف يحقق الشخص الرواقي الحرية: ليس بالخروج من سلسلة الأحداث الحتمية (وهو امر مستحيل) وانما من خلال الاختيار الواعي لما لا مفر منه. لهذا، الحرية لا تتحقق عبر اختراق سلسلة الأسباب والنتائج وانما عبر رفض الانجرار وراء القدر بطريقة لا تليق به.
نظرا لتأثره الكبير بفوكو، يقدم الفيلسوف الإيطالي جورجية أغامبين Giorgio Agamben تفسيره الخاص للسياسة الحيوية biopolitics (إدارة الحكومة للناس كوحدات بايولوجية) والرواقية وعلاقتهما التاريخية. كما بالنسبة لسارتر وكرستيف، يخفي اغامبين مشاعره المتناقضة نحو المُثل الأخلاقية للرواقية. بالنسبة لأغامبين، لعبت الرواقية دورا هاما في إعادة تشكيل فكرة السيادة sovereignty .على الجانب النقدي، اغامبين يفهم النظرية الرواقية للعناية الإلهية كنوع من أداة تُستخدم لشخصنة، او بكلمة أخرى تحديد أنواع معينة من الأشخاص – وتحديدا، افراد يمكن حكمهم. الاخلاق الرواقية وعلم الكون يأتيان مجتمعان كآلية للتحكم، نموذج قديم للحوكمة. مرة أخرى، مشكلة اللغة تُجلب الى الصدارة. وجود اللغة، اللغة ذاتها، تبقى غير قابلة للتعبير عنها في اللغة. ما لايقال في اللغة هو وجود اللغة ذاتها. اللغة التي يتم التأمل فيها ككل هي مستحيلة، لغز لا يمكن قوله.
في محاولته معالجة لغز اللغة وآثاره المرعبة يلجأ اغامبين الى الرواقية. اللغز الساحق للّغة ونزعتنا الغريبة لنكون مطلعين بلا وعي على حدّها الغريب هو حسب العديد من المفكرين (فيتغنشتاين، هايدجر، اغامبين وغيرهم) يميل لإثارة قلقنا. انه المبدأ الكوني Logos بكل عظمته المتواضعة الذي يجبر العواطف على الظهور. ان وفرة اللغة تشير الى وفرة الحياة وحدودها الطبيعية: الموت. تقدم الرواقية مختلف التمارين الروحية لكي نصبح واعين بنزعة الذهن اللاعقلانية لمحاولة فهم اللغة والعالم ككل. تستخدم الرواقية اللغة ذاتها كمصحح للّغة. هذه هي الوظيفة العلاجية. إجعل الذهن ضمن حدوده الطبيعية وامنعه من الموافقة على الأهواء والعواطف اللاعقلانية الناتجة عن الوجود نفسه، والميل الغريزي لفهم هذا الوجود للّغة ذاتها. بيير هدوت Pierre Hadot باحث في الفلسفة القديمة يحظى بإشادة واسعة. هو عادة يُذكر الى جانب ميشيل فوكو نظرا لإهتمامه بالفلسفة القديمة كأسلوب حياة عملي وملموس. كل من هدوت وفوكو كانا منشغلين في دراسة التمارين الروحية او تقنيات الذات، خاصة عندما تتعلق بالرواقية القديمة. لذلك، فان الرواقية كطريقة في الحياة، احدى أهم المشاريع الرئيسية التي سخر لها هدوت كل حياته.
نقطة أخرى مشتركة بين هدوت و فوكو و دولوز أيضا، هي طريقة قراءة النصوص الفلسفية (القديمة وغيرها) التي تضمنت استيعابا راديكاليا وجوديا لمبادئها. كل من هودت وفوكو سعيا الى استخلاص تجربة من عمل فلسفي. هما سعيا لبيان كيف يمكن للمرء احياء نظام فلسفي، ليس فقط كنظام، شكلية فارغة، او مجرد بناء نظري، وانما ليبيّن كيف يمكن للمرء ان يعيش الفلسفة قيد الشأن.
كما بالنسبة لأغامبين، هودت كان متأثرا بعمق بعمل فيتغنشتاين اللاحق. عمل فيتغنشتاين اللاحق ركز على المظهر البراجماتي للّغة. اللغة كشكل من الحياة يتفوق على اللغة كنظام منطقي. فكرة هودت للتمارين الروحية كانت، بهذا المعنى، متأثرة بعمق بمفهوم فيتغنشتاين لألعاب اللغة. يقدم هودت قراءة أصلية منقطعة النظير للفلسفة القديمة عبر السعي لإنعاش وإعادة بناء الظروف المادية والبرجماتية للحياة التي سمحت بظهورها. خلافا للتحليلات الاكاديمية التقليدية، يقدم هودت للقارئ تجربة روحية وتحويلية يمكن بواسطتها للمرء تدريب نفسه ليعيش ويتصرف (بدرجة أقل او أكثر) كالرواقي. العديد من فروع علم النفس الحديث، مثل العلاج السلوكي المعرفي (CBT) هي في الحقيقة تشبه التفسيرات المعاصرة لممارسات الرواقية القديمة.
The collector, Feb 18,2025
***
حاتم حميد محسن






