بأقلامهم (حول منجزه)
صالح الرزوق: المنطقة الرمادية في كتابات ماجد الغرباوي

تأتي نصوص “يتهادى حلما” للكاتب العراقي المغترب ماجد الغرباوي* ضمن المنطقة الرمادية التي قسمت أدباء الجنوب عن الشمال مثلما عزلت الاتجاهات الوطنية والإنسانية العامة عن التوجهات القومية التي تعاني من العزلة والتحسس وذلك لسبب واحد من اثنين. إما لأنها لم تفهم العلاقة الصحيحة بين التحرير والحرية. أو لأنها انتقلت من مبدأ الالتزام وتعبئة الشعب إلى حالة شعبوية غير واعية تقتات على الغرائز السلبية، ومنها بالتأكيد حتمية الموت وما يتلازم معه من خوف وترقب.
ولا تخلو كتابات الغرباوي من القلق الذي يخبئ ضمنا نوعا من التساؤل، ويخجل أو يتردد من اقتراح حلول أو تصور معجزات. ويؤمن الغرباوي ويدرك تماما أن المعجزات هي جزء من خاتم النبوة، والمفروض أن نبحث عن الحل ضمن وسائل يوفرها الواقع. وقد أعلن عن ذلك عدة مرات، وبشكل لا لبس فيه، في معظم أجزاء موسوعته التي حملت عنوانا عريضا وشاملا وهو “متاهات الحقيقة”.
تضم نصوص “يتهادى حلما” مجموعة من القصص والقصائد النثرية، التي كتبها الغرباوي على امتداد عشر سنوات تقريبا، كان يعمل خلالها على موسوعته. ولذلك يجب أن نتوقع أن هذه النصوص تؤكد على هموم الموسوعة وبحديها. وهي داخلية وخارجية. فالقصص تصور شخصيات لا تعرف طريقها بشكل واضح، والقصائد تبحث عن زواريب خلفية في واقع كاسد وعرضة للسقوط في كل لحظة. وبتعبير الناقد يوسف اليوسف إنها تصور واقعا عروبيا جافا كالحطب. ولا يمكن ان ننتظر منه غير الحرائق والرماد. ولا يسعني هنا مقارنته إلا بكتابات إدوار الخراط، مؤلف “أشواق الكائنات الطائرة” و”السكة الحديد”. فمع أن كائناته تحلق – لتدارك السقوط والتمرغ بتراب الهزيمة – ومع أنها حديدية – لتقاوم ضغط الطبيعة واعتداء الإنسان المتسلط والطبقي – لكنها تبقى سلبية، ومحرومة من الخلاص. وما يقرب الغرباوي من الخراط الطبيعة الباطنية للشخصيات. كلاهما يفسر المشاعر بالمشاعر، فالغرباوي يتعايش مع حالات وأحوال، والخراط يضع صور شخصياته وراء أحاسيسها (فهو يعرف الشخص بأشواقه المتطايرة والملتهبة). وهذه العلاقة المعكوسة مرشحة للكشف عن كوابيس المجتمع الحديث الذي تستهلكه حروب ذكرها الخراط علنا، ولكن أشار إليها الغرباوي بالتلميح. وهذا وحده يفسر إسهاب الخراط (كل قصة على الأقل 3500 كلمة) واقتصاد الغرباوي (قصصه تتراوح بين 500-1000 كلمة وقصائده أقل من 250 كلمة).
يضاف لما سلف تبنيه لتقنية الصوت – أو بتعبير جورج سالم تقنية العزف المنفرد – السولو Solo. وهو أسلوب إيماني يعذبه الإحساس الظالم بدنايا الواقع وأخطاء البشرية. ولكنه أسلوب معاكس لتقنية الأصوات التي تبلورت على يد غائب طعمة فرمان، وتابع معها برهان الخطيب وجبرا، ووصلت إلى القارئ في مشروع نجيب محفوظ. فالأصوات مثل جدارية اجتماعية تعكس ما تهضمه معدة المدينة – خباياها وعيوبها الإجبارية. لكن الصوت اليتيم يدل على الشخص الضائع الذي فقد اتجاهه، وغالبا يكون موضعه فوق اللاشعور. (ويمكن تصنيفه في منطقة تأتي تحت الوعي – ويعادلها حركة العين السريعة في الأحلام).
وأعتقد أن ماجد الغرباوي لم يأخذ فكرة الباب الممنوع من التراث العربي، مع أنه مطلع عليه بشكل جيد. ولا من الميثولوجيا الدينية – مع أنه متخصص بتفكيك الخطاب الديني وإعادة تفسيره. وعلى الأرجح تبلورت لديه هذه الفكرة من إخفاقات فكرنا السياسي، وبالأخص فكرة الحداثة (بفرعيها الليبرالي الغربي والاشتراكي الشرقي)، فقد تورطت حداثتنا بقيمة إنكارية ووجدت نفسها داخل القمقم. إما أنها تؤمن بقيمة الكلمة في تحرير التراب الوطني – على طريقة السوفييت. أو أنها تؤمن بدور الكلمة في تحرير العقل والنفس من قيود الرقابة والسلطة – على طريقة الجمعيات والصالونات التي بدأت بالظهور مع نهاية سلطة الباب العالي، ودخلت في السبات بعد الاستقلال، وحتى منتصف الثمانينات وظهور حركات المجتمع المدني.
وفي هذا السياق كانت نصوص الغرباوي تدور حول 3 أو 4 كلمات مفصلية.
الأولى هي الحركة: وأعتقد أنه لا يقصد الحركة المستمرة ولكن الدورانية. ففي قصة “هاتف الفجر” يعلو نبضه ويدور مع دورة الأرض، ولا يصعد وينخفض كما هو مفروض علميا ص9. وفي قصة “قرار ارتجالي” يسأم البطل من الحياة وهو يدور في حلقة مفرغة ص 45، وهذا هو شأن جميع رموز التحديث العربي، وبالأخص أدباء الفجائع والمقابر. أو بلغة ليسلي فيدلر أدباء الموت الأسود macabre. وبلغة جاك لاكان جماعة الأنا الصغيرة. وتدخل في هذا السياق كلمة “يتهادى” فهي تدل أيضا على حركة النواس، وهو رمز يحمل معنى التردد بين قطبين أو اتجاهين.
ثاني كلمة هي الحلم: ويشحنها الغرباوي بقيمة فرويدية وأوديبية. وبطل قصص وقصائد أحلامه يتكلم بلسان خائف ومرعوب من أشياء محسوسة وغير مرئية، يسميها “أحلامي المتعبة” في قصة “تمرد” ص16. ثم يقول عنها إنها تسبب له “الرعب المزلزل” ص16. وتأخذ دائما شكل قضية يلفها ضباب الغموض. ويبدو أنه يفكر بها أكثر مما يتكلم عنها. ولهذا السبب تنمو لديه ميول انتحارية تحببه بالعدم – وليس الموت تحديدا، أو بخلاص الموجود، وكأن الحل يكون في فناء الطاقة وليس المادة. وباعتقادي أنه دائما يقف مع الجوهر على حساب الماهية.
الكلمة الثالثة هي التشظي: وتعبر عن مقته وكرهه للحدود. فالإرغام جزء من المجتمع البورجوازي الحديث، وفشل الدولة الحديثة في استيعاب كل رغبات أبنائها يضعهم في عدة مدارات متناقضة توجه الوعي الاجتماعي نحو عالم أفراد وليس عالم جماعات خطاب. ويترتب على ذلك أن وعي الفرد بنفسه غير متكامل عضويا، ولكنه وصولي ومتبدل، ويضع كل إنسان بمواجهة احتياجاته، مع ضغط متزايد نحو تلبية رغبات الآخر. وبالتأكيد يساهم ذلك في تركيب أوهام عن الذات وعن الغريزة. والتبدل لا يكون شكلا من أشكال التجديد ولكنه تعبير مرضي عن الإغراءات والضغوط. والأمثلة أكثر من أن تحصى، ومنها رواية “فرانكشتاين في بغداد” لأحمد سعداوي. وغني عن الذكر أنها تستند لفكرة الإنسان الميكانيكي أو الآلي، وهو حصيلة تجميع أجزاء بشرية ميتة. وقيامة الميت الجماعي ليست مضمونة ويصعب التنبؤ باتجاهها. وهذا هو مضمون رواية “فرانكشتاين” الأصلية لماري شيللي، وليس كما هو شايع أنها تعبير رومنسي عن صراع نهضة العلم أمام أزمة الروح. ويبني أنتوني بورغس روايته “الإنسان الآلي” A Clockwork Orange على هذا الأساس. فهو يصور مقبرة جماعية يعيش فيها أحياء بحكم الأموات. وهذه المقبرة هي المصنع – مكان العمل، لكن البيت – هو المدفن الذي يتابع فيه أعضاء الأسرة سباتهم.
وربما كانت رابع واخر كلمة متضمنة، وهي عن الوحي: الذي يبدو شريرا في كثير من الأحيان، و لا علاقة له بوحي الأنبياء، وله عدة أسماء ومترادفات ومنها “الهاتف”، وكان يدعو بطل القصة للاستجارة بقوة الظلام وليس النور ص9. وللاستسلام لطائفة من الجن ص9. بل وللتوسل إليها وليس مقاومتها كما يقول حرفيا ص9.
وتوجد أمثلة كثيرة للوساوس والهمسات التي تتسبب لأصحابها بالجنون السريالي أو الرمزي ومن بينهم المستر كوجيتو في أشعار البولوني زبيجنيف هربرت، والوسواس الخفي في أشعار تلميذه الأمريكي سكوت ماينار.
لكن لا اريد أن يفهم أحد أن نصوص الغرباوي تنتمي لما بعد الحداثة أو أنها تجريبية. بالعكس هي نصوص منضبطة، لا تهتم بالبيئة ولكن بالإنسان البيئي. بمعنى أنها تضع الأشخاص في مركز عالمها الضيق. كما أنها لا تكتب عن أشخاص ولكن عن أحوال. ولهذا السبب تبدو المحددات جزءا لا يتجزأ من مغامرة وعي الأفراد بمشكلتهم مع أنفسهم. وهذا يعني أنهم أنويون – وليس أنانيين، ولديهم وعي مرضي ومضخم بالذات على حساب الموضوع، كما عودنا جيل الحداثة الثاني وعلى رأسهم على سبيل الذكر، لا الحصر، ياسين رفاعية ومحمود الريماوي وعادل أبو شنب إلى آخر هذه السلسلة.
***
د. صالح الرزوق – أديب وناقد ومترجم
..........................
* صدرت المجموعة عن مؤسسة المثقف العربي بالتعاون مع دار العارف في بيروت عام 2025.