أقلام حرة

علي الطائي: إيمانٌ بلا مَذاهِبَ.. تأمُّلاتٌ في مَأساةِ المُتديِّنينَ

في مُجتَمَعاتٍ مُمَزَّقَةٍ بطُولِ التَّاريخِ وعَرضِ الجُغرافيا، يَتَردَّدُ صدىً مُزَلزِلٌ لِحقيقةٍ مُرَّةٍ: أنَّ التَّدَيُّنَ الذي كان يُفتَرَضُ أن يُحرِّرَ الرّوحَ، قد صارَ في أحيانٍ كثيرةٍ قَيدًا جديدًا، وصَنمًا مَذهَبِيًّا يُعبَدُ من دونِ اللهِ، وأنَّ الدِّينَ الذي نَزَلَ ليُوقِظَ الضَّميرَ الإنسانيَّ صارَ مَسرَحًا لِصِراعِ الشِّعاراتِ، ومَعركةِ الأسماءِ، ومَوطِنًا لِلتَّعصُّبِ لا لِلتَّسامحِ، ولِلفُرقةِ لا لِلوَحدةِ، حتى غدا الإيمانُ -في أكثرِ تَمَظْهُراتِهِ الواقعيَّةِ- صورةً مُشوَّهَةً لِما أُريدَ له أن يكونَ.

ما أعظمَ المأساةَ حين تُستَبدَلُ غايةُ العبادةِ بِوسيلةِ الطائفةِ، ويُقدَّمُ الوَلاءُ لِرُموزِ الأئمَّةِ والمشايخِ على التَّوجُّهِ الخالصِ إلى ربِّ الأئمَّةِ والمشايخِ، ويُصبِحُ الوَلاءُ العقائديُّ أداةً لِلفَرزِ الطائفيِّ أكثرَ من كونهِ تَجسيدًا لِحقيقةِ الإيمانِ. يُحارِبُ النّاسُ بعضُهم بعضًا باسمِ اللهِ، ويُكفِّرُ أحدُهم الآخرَ باسمِ الدِّفاعِ عن الدِّينِ، بينما الدِّينُ الحقُّ يَتهدَّمُ تحتَ أقدامِهم وهم سادِرونَ في غَيِّهم.

إنَّ جَوهَرَ المأساةِ يَكمُنُ في تَحوُّلِ المَذهبِ -الذي كانَ في الأصلِ اجتِهادًا بَشريًّا لِفَهمِ النَّصِّ الإلهيِّ– إلى حقيقةٍ مُقدَّسَةٍ تَعلو فوقَ النَّصِّ نَفسِهِ، وتُقاسُ بها النِّيّاتُ، وتُحاكَمُ بها العُقولُ، بل ويُكفَّرُ من خالَفَها، وإن شهِدَ أن لا إلهَ إلّا اللهُ.

وهكذا أصبَحَ بعضُ المسلمينَ سُنَّةً وشيعةً وأتباعًا لِمَذاهِبَ شَتّى، لا لِيَتَفاهَموا ويَستَفيدوا من غِنى التَّنَوُّعِ، بل لِيَتَناحَروا ويَهدِمَ بعضُهم بعضًا، ويُنَصِّبَ كُلٌّ منهم نَفسَهُ بوّابةَ الجَنَّةِ وسيفَ اللهِ على الأرضِ.

فالسُّنِّيُّ الذي يَرفعُ رايةَ السَّلَفِ، رُبَّما تَجِدُهُ يَتَعصَّبُ لِلإمامِ، ويُقَدِّسُ كُتُبَ الأحاديثِ حتى تَغدو أقربَ إلى الوحيِ من القرآنِ، ويُخرِجَ من الدّائرةِ كُلَّ مَن ناقَشَ مَسألةً في الصَّحابةِ أو طالَبَ بِمُراجعةٍ عَقلانيَّةٍ لِلتُّراثِ، في حينَ يَنسى أنَّ الدِّينَ بُنيَ على التَّوحيدِ والإخلاصِ، لا على تِكرارِ الأقوالِ وتَقديسِ الرِّجالِ.

أمّا الشِّيعيُّ، فيَغرقُ في عِشقِ آلِ البيتِ حتى يَغدو حُبُّهم بَديلًا عن طاعةِ اللهِ، ويَنسُجَ حولَهم هالةً من العصمةِ والمكانةِ ما أنزَلَ اللهُ بها من سُلطانٍ، حتى تُمارَسَ طُقوسٌ تُقارِبُ التَّأليهَ وهم يَظنّونَ أنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا.

والمأساةُ أنَّ كِليهما يَظنُّ أنَّهُ وحدَهُ على الحَقِّ، ويَستَدِلُّ بنُصوصٍ تُعيدُ إنتاجَ الصِّراعِ بدلًا من أن تُنهِيَهُ، وتُحيلَ الدِّينَ إلى خَندَقٍ، لا إلى جِسرٍ يُوصِلُ بينَ الإنسانِ وربِّه. بل إنَّ كِلا المَعهَدَيْنِ، يَنسى –عن عَمدٍ أو عن غَفلَةٍ– أنَّ اللهَ لم يَسألْ يومَ القيامةِ: «ما مَذهبُكَ؟»، بل سألَ: ماذا أجبتمُ المرسَلينَ؟.

الإيمانُ: كما أراهُ وأعتَنِقُهُ

أمّا أنا، فلا أَرى في المَذاهِبِ طريقًا إلى اللهِ، بل أَراها حَواجِزَ شُيِّدَت بأسماءِ الرِّجالِ، فوقَ النَّصِّ، وتَحتَهُ، وعلى هامِشِه. طريقتي في الإيمانِ بسيطةٌ وعَميقةٌ، تَجمعُ بينَ الإخلاصِ للهِ، والنَّظرِ بالعَقلِ، والانطِلاقِ من الواقِعِ.

أُؤمِنُ باللهِ، لا كما وصَفَتهُ الفِرَقُ، بل كما أنزَلَهُ في كُتُبِهِ، وكما أشرقَ في ضَمائرِ الخَلقِ.

أُؤمِنُ بالعَقلِ، لا لأنَّهُ بَديلٌ عن الوَحيِ، بل لأنَّهُ نِعمةُ الوَحيِ الأولى.

وأُؤمِنُ بالواقِعِ، لا كَحُكمٍ مُطلَقٍ، بل كَمِرآةٍ لِلحقيقةِ المَهدورةِ.

لا أتَمَذهَبُ بأيِّ شَكلٍ، لأنَّني لا أرى الحَقَّ مَحصورًا في طائفةٍ أو إمامٍ، ولا أُؤمِنُ بعِصمةِ مَن وُلِدوا وماتوا. وأتَّخِذُ من القرآنِ دُستورًا، هو الأصلُ والمَنبَعُ، لا كتابًا يُؤوَّلُ وفقَ أهواءِ السِّياسةِ والتّاريخِ. فالإيمانُ الحقيقيُّ عندي لا يُقاسُ بِمدى الالتِزامِ بما قالَهُ فُلانٌ أو فُلانٌ، بل بِمدى الصِّدقِ معَ اللهِ، والخَشيةِ منهُ، والسَّعيِ الدّائمِ إلى الحَقِّ مهما كَلَّفَ.

حينَ تَتَحوَّلُ العبادةُ إلى طَقسٍ جَماعيٍّ لا يُثمِرُ خُشوعًا فَرديًّا، وحينَ يُقاسُ التَّديُّنُ بِعددِ مَرّاتِ السُّجودِ لا بِصِدقِ الخَشيةِ، تُصبِحُ المساجِدُ مُمتلئةً والقُلوبُ خاوِيةً. إنَّ الصَّلاةَ بلا روحٍ، والصَّومَ بلا تَقوى، والحَجَّ بلا خُضوعٍ، تُمثِّلُ مَأساةَ المُتديِّنِ المُعاصِرِ، الذي ظَنَّ أنَّهُ يُرضي ربَّهُ، وهو إنّما يُرضي مَذهبَهُ وجَماعتهُ.

إنَّ الإيمانَ حينَ يُصبِحُ عُنوانًا لِلخِصامِ، فهو ليسَ من اللهِ في شَيءٍ، وإنَّ التَّدَيُّنَ الذي يُنتِجُ قُلوبًا مُتَحَجِّرَةً هو جَفاءٌ لا صَفاءَ، وعبادةٌ لِلأنا تحتَ سِتارِ التَّقوى.

كُلُّ الطُّرُقِ التي لا تُؤدِّي إلى اللهِ ضَياعٌ، وكُلُّ المَذاهِبِ التي تُقصي عِبادَ اللهِ وتُقَدِّسُ غَيرَهُ، إنَّما هي شِركٌ مُستَتِرٌ، وتِيهٌ مُقَنَّعٌ، وظِلالٌ تُحاكُ باسمِ النُّورِ. إنَّ الإيمانَ حين يُبنى على العَقلِ والصِّدقِ والبَحثِ، لا على الوِراثةِ والتَّقليدِ، يَغدو سِراجًا يَهدِي صاحِبَهُ في ظُلماتِ الطَّريقِ.

فَلنُعِدْ بَناءَ إيمانِنا على سؤالٍ واحِدٍ: «هَلِ اللهُ راضٍ عنّي؟»، فإن كانَ الجَوابُ مُبهَمًا، فَكُلُّ عبادةٍ سِواهُ لَغوٌ، وكُلُّ مَذهبٍ سِواهُ وَهمٌ، وكُلُّ صِراعٍ باسمِهِ باطِلٌ، وإن علا التَّكبيرُ في المآذِنِ، وإنِ امتلأَتِ الصُّفوفُ، وإنِ ارتفَعَتِ الرّاياتُ.

ذلكَ هو الإيمانُ الذي لا مَذهبَ لهُ إلّا اللهُ.

***

د. علي الطائي

 

في المثقف اليوم