أقلام حرة
عبد السلام فاروق: أفول الهيمنة الأمريكية

لطالما شغلني مسألة التغير في موازين القوى العالمية، وكيف أن الأمم تسير في دورات تاريخية لا تختلف كثيرًا عن دورة الحياة الطبيعية، تولد ثم تنمو فتكتمل ثم تبدأ في الأفول. هذه الفكرة ليست جديدة، بل أكدها العديد من المفكرين من أمثال شبنجلر في كتابه "تدهور الحضارة الغربية"، حيث رأى أن الحضارات تمر بمراحل الربيع والصيف والخريف والشتاء، تمامًا كما يمر الكائن الحي. واليوم، يبدو أن الغرب عامة والولايات المتحدة خاصة يدخلان مرحلة الشتاء هذه، بينما تشهد القوى الشرقية صعودًا جديدًا.
لم تكن قمة شنغهاي الأخيرة مجرد تجمع دبلوماسي عابر، بل كانت إعلانًا صريحًا عن ولادة عالم جديد يتشكل بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية التي سيطرت على القرن العشرين. فقد جمعت القمة قادة الصين وروسيا والهند وكوريا الشمالية، وما رافقها من استعراض عسكري صيني مبهر، كشف عن حقيقة لم يعد بالإمكان إنكارها: ميزان القوى الدولي آخذ في التحول جذريًا.
لقد أصبحت الصين، بقوتها الاقتصادية التي تجاوزت في بعض المؤشرات نظيرتها الأمريكية، وبترسانة عسكرية متطورة، تقدم نفسها كقطب قادر على منافسة واشنطن بل وتجاوزها. وهذا ما أكده البيان الختامي للقمة، الذي دعا إلى نظام عالمي أكثر عدالة وتعددية، وانتقد السياسات الأحادية للغرب.
منذ الحرب العالمية الثانية، كان الاقتصاد الأمريكي المحرك الأساسي للقوة الناعمة والصلبة في آن واحد. الدولار صار العملة العالمية، وول ستريت باتت بوصلة الأسواق، وصناعات التكنولوجيا والفضاء غذت أسطورة "الحلم الأمريكي". لكن هذه الصورة الذهبية لم تعد تعكس الواقع.
فالصين صعدت كقوة صناعية وتكنولوجية هائلة، وأصبحت شريكًا تجاريًا رئيسيًا لأكثر من 120 دولة حول العالم، بينما تحولت الولايات المتحدة إلى اقتصاد استهلاكي يعتمد على الاستيراد أكثر من الإنتاج. تقارير دولية تشير إلى أن الدين القومي الأمريكي تجاوز 34 تريليون دولار في 2025، وهو رقم يهدد استقرار اقتصاد أمريكا الآن وغدًا.
إلى جانب ذلك، تتآكل الطبقة الوسطى التي شكلت تاريخيًا العمود الفقري للنظام الأمريكي. ملايين الوظائف في قطاع التصنيع هاجرت إلى آسيا وأمريكا اللاتينية حيث العمالة الأرخص. أما الداخل الأمريكي، فيرزح تحت تضخم أسعار السكن والرعاية الصحية والتعليم. هذا الوضع يخلق إحباطًا جماعيًا، ويجعل من "الحلم الأمريكي" وعدًا كاذبًا أكثر منه حقيقة ملموسة.
من الهيمنة إلى التصدع
قوة أمريكا لم تكن يومًا في اقتصادها فقط، بل في شبكة تحالفاتها التي صاغت النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حلف الناتو، العلاقات الخاصة مع أوروبا، القيادة في المؤسسات الدولية، كلها كانت أدوات واشنطن للحفاظ على هيمنتها. لكن هذه الشبكة بدأت تتصدع.
فالحلف الأطلسي يشهد اليوم أزمات ثقة متتالية. بعض دول أوروبا الشرقية تشكك في جدية التزام واشنطن بالدفاع عنها إذا تعرضت لتهديد مباشر، فيما تسعى فرنسا وألمانيا لتعزيز استقلاليتهما الدفاعية عبر مشاريع أوروبية خالصة. في آسيا، باتت اليابان وكوريا الجنوبية تتجه أكثر نحو الحوار مع الصين وروسيا لتأمين مصالحها، بدلاً من الاتكال الأعمى على واشنطن.
حتى الشرق الأوسط، الذي كان تقليديًا ساحة نفوذ أمريكية، يشهد تحولات جذرية؛ فالسعودية وإيران جلستا سابقًا إلى طاولة واحدة برعاية صينية، والإمارات بدأت تتوسع في شراكات مع روسيا والهند، فيما لم تعد واشنطن اللاعب الوحيد الذي يملي قواعد اللعبة. إن تراجع الثقة بالحليف الأمريكي ليس أمرًا طارئًا مرتبطًا بترامب، بل تغير عميق ناتج عن إدراك دولي أن الولايات المتحدة لم تعد تملك القدرة للقيام بدور الشرطي العالمي كما كان في السابق.
مجتمع منقسم على نفسه
ربما يكون ما يحدث في الداخل الأمريكي أخطر من كل التحديات الخارجية. فالمجتمع الذي طالما افتخر بكونه بوتقة تنصهر فيها الأعراق والثقافات، يعيش اليوم حالة استقطاب غير مسبوقة. الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين لم يعد مجرد خلاف حزبي، بل صار شرخًا أيديولوجيًا يمس هوية الدولة نفسها.
اليمين الشعبوي، ممثلًا في تيارات ترامب، يرى أن "أمريكا الحقيقية" يتم انتزاعها لصالح نخب ليبرالية وعالمية. في المقابل، يرى اليسار التقدمي أن خصومه يسعون لإعادة البلاد إلى ماض عنصري وقمعي. هذا الانقسام يظهر في كل تفاصيل الحياة: من النقاش حول التعليم والجندر، إلى قضية الهجرة والسلاح.
الأمر لا يقف عند حدود السياسة، بل يتغلغل في المجتمع والإعلام. الأمريكيون اليوم يعيشون في فقاعات إعلامية متناقضة: قناة فوكس نيوز تصنع واقعًا مغايرًا تمامًا لما تبثه CNN أو نيويورك تايمز. هكذا لم يعد هناك "رأي عام" واحد، بل مجتمعات متجاورة لا تتحدث اللغة نفسها.
فالولايات المتحدة لم تعد قادرة على تقديم نفسها كنموذج جذاب للعالم، خاصة في ظل تناقضاتها الداخلية وانهيار أسطورة "الحلم الأمريكي". كما أن صعود التيارات الشعبوية والعنصرية في الداخل الأمريكي أضر بصورة الولايات المتحدة كدولة تدعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يمكن للولايات المتحدة أن تعكس هذا التراجع؟ الإجابة ليست بسيطة، فكما يذكرنا التاريخ، فإن دورات صعود وهبوط الإمبراطوريات تخضع لعوامل كثيرة، بعضها داخلي وبعضها خارجي. لكن ما يمكن قوله هو أن الولايات المتحدة تواجه اليوم تحديات وجودية قد تعجل بأفولها كقوة عظمى وحيدة.
فمن الناحية الداخلية، فإن الانقسام السياسي والاجتماعي العميق، بالإضافة إلي الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، يجعلان من الصعب على الولايات المتحدة أن تتبنى سياسات طويلة المدى قادرة على إعادة بناء هيمنتها. ومن الناحية الخارجية، فإن صعود القوى الجديدة مثل الصين وروسيا، وتشكيل تحالفات جديدة خارج الإطار الغربي، يعني أن العالم أصبح متعدد الأقطاب بدرجة لا تسمح بعودة الهيمنة الأمريكية الأحادية.
***
د. عبد السلام فاروق