اخترنا لكم
السيد ولد أباه: العرب والكونية الإنسانية

في مقال بصحيفة «دي تاغس تايتونغ» الألمانية (26 أغسطس 2025)، تذهب الفيلسوفة النمساوية ايسولد شريم إلى أن الدول التي وضعت أسسَ النظام القانوني الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، تعمل راهناً على التحلل من هذه المرجعية المعيارية التي كرست قيمَ السلم والعدالة بين الأمم في الحقبة المعاصرة. في السابق، كانت مفاهيم والتزامات القانون الدولي تُرفع في وجه الأنظمة التسلطية الاستبدادية في الشرق والجنوب، واليوم أصبحت الأممُ الديمقراطيةُ الليبراليةُ هي التي تتنكر لهذه المعايير والمفاهيم، إلى حد التساؤل المشروع عن جدوائية هيئة الأمم المتحدة التي هي الحصن الحاضن لمنظومة القانون الدولي.
لقد انهار كلياً حلمُ «الأسرة الدولية»، أي فكرة تحالف الأمم الحرة، والتي جسدت مقاربةَ كانط الشهيرة حول «السلم الأزلي»، القائمة على بناء نسق فيدرالي عالمي يمنع الحربَ والعدوانَ والعنفَ بين الشعوب والدول.
وبطبيعة الحال، لم يَدع كانط إلى حكومة عالمية واحدة، بل اقترح حالةً قانونيةً تتناسب مع التعددية السياسية القائمة على المستوى الدولي، مِن منظور التضامن الإنساني الكوني. وبعبارة أخرى، فقد اعتبر كانط، على غرار جل فلاسفة الأنوار، أن شرطَ السلم بين البشر هو توطيد مثال الكونية الإنسانية، بدلاً من الهويات الانتمائية الخصوصية المغلقة التي تقود إلى التناحر والعنف.
والكونيةُ، كما تَصورها كانط وفلاسفة عصره، ترتكز على العقلانية والحوارية، وتستعيد مثال الكوسمبولوتية (أي العالمية) من حيث هي التعبير عن الرابطة الإنسانية المشتركة.
وما نلمسه اليوم على نطاق الحركية السياسية في الغرب هو الصدام بين نزعة قومية سيادية جلية لدى التيارات الشعبوية الصاعدة، ونزعة كوسمبولوتية (إنسانية كونية) تعود في مرجعيتها البعيدة إلى سياق التنوير والعقلانية الحديثة.
في كتابها «أنا والآخر.. كيف تغيرنا جميعاً الحالةُ التعددية الجديدة؟»، تقف شاريم عند مظاهر التنوع في المجتمعات الحالية، من هجرات كثيفة وإعادة تشكل الهويات الثقافية والإثنية، مبيِّنةً أن تفتت الأنساق الشمولية وتجزؤ البُنيات الاجتماعية إلى حدود قصوى غير مسبوقة، وانفجار الكليات الانتمائية، كلُّ هذا يفرض العودةَ إلى الكوسمبولوتية الكانطية شرطاً أوحدَ لحل معضلة تنافر وتصادم المجتمعات البشرية. والكوسمبولوتية تَفترض الانفتاحَ والاعترافَ المتبادلَ، وأفقُها هو الكونيةُ المشتركة، في حين تؤدي النزعة القومية الهوياتية إلى الانغلاق والتعصب والإقصاء. ولا شك في أن المكسب الأخلاقي الأكبر للدول الليبرالية الحديثة هو صياغتُها مدونةَ حقوق الإنسان وما يرتبط بها من معايير القانون الدولي، وهي إذ تتنكر لها اليوم تفتح الطريقَ أمام عودة العنف الهمجي للمعمورة.
وفي ضوء ملاحظات شاريم، يمكن أن نشير إلى مفارقة جلية تتجلى في تشبث بلدان الجنوب الشامل، التي توصف أصلا بغياب الديمقراطية وبانتهاك حقوق الإنسان، بقيم ومعايير القانون الدولي في دفاعها عن حقوقها ومصالحها على المستوى الدولي، في الوقت الذي ترى فيه القوى الليبراليةُ الكبرى في هذه القيم والمعايير عبئاً يقيد سياساتِها وقراراتِها في الساحة العالمية.
وفي السابق، كانت شعوب الجنوب، بما فيها العالم العربي والإسلامي، تتحفظ على الأدوات القانونية الكونية من منظور الخصوصية الثقافية والاعتبارات السيادية، واليوم تَتهم الدولَ الليبراليةَ الغربيةَ بازدواجية المعايير، وتُطالبها بالوفاء بالتزاماتها في الملفات التي تتعارض فيها مصالحُها مع المرجعية الأخلاقية والقانونية الكونية.
ومع الفظائع التي جرت أخيراً في غزة، قرأنا على نطاق واسع لبعض الأقلام المشهورة حول «خرافة» القانون الدولي، وضرورة القطيعة الكلية مع «الكونية الغربية»، بيد أن هذه النزعةَ العدمية تقوم على مفارقةٍ إشكاليةٍ وهي اختزال القيم الإنسانية الكونية في «مصدرها» الغربي، مع تبرير الخروج عليها بانتهاك «واضعيها»، بدلا من النظر إليها كتراث بشري مشترك، هو السلاح الوحيد المتاح لنا من أجل الدفاع عن قضايانا العادلة.
وفي الوقت الذي انحاز فيه بعضُ السياسيين العرب خلال الحرب العالمية الثانية لألمانيا النازية، احتجاجاً على السياسات الاستعمارية البريطانية والفرنسية، ظهرت وجاهةُ المواقف التي اعتمدها بعض قادة الحركات التحررية في وقوفهم مع الحلفاء ضد الجنون الهتلري، كما هو شأن الملك المغربي محمد الخامس والزعيم التونسي الحبيب بورقيبة. كان بورقيبة يقول: «سأحرر تونس بفكر التنوير الفرنسي، لكي أبيّن للمستعمر أنه ينتهك أفكارَ الثورة التي حررت فرنسا نفسَها».
ما نخلص إليه هو أن المصلحة العربية تقتضي اليوم الدفاع عن فكرة الكونية الإنسانية، في تجسيدها القانوني والمؤسسي العالمي، رغم مظاهر انتهاكها وحالات التنكر المتزايد لها في الغرب الليبرالي. في هذا السياق، لا بد أن ندرك أن هذه الفكرة ليست إطاراً إجرائياً قابلا للقياس والضبط، بل فكرة مرجعية ومنظور قيمي توجيهي، وعندما نطالب بالتحلل منها نسقط في فخ الأيديولوجيات العدوانية الإقصائية التي هي الخطر الحقيقي الذي يهدد مصالحنا وحقوقنا المشروعة.
***
د. السيد ولد أباه
عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 21 سبتمبر 2025 23:45