نصوص أدبية

نضال البدري: جاري والكلب

في هذا الحي ومنذ أن وعيت، وجاري الذي يسكن في الجانب المقابل لمنزلنا، لغزا حير الجميع. لا أحد يعرف اسمه، ولا أحد رآه يتحدث لأحد، كان طويل القامة نحيلًا، كظل شجرة سقطت أوراقها، يسير بخطى واثقة حين يمر وَسَط الحي، لا يبتسم لأحد ولا يرُى إلا نادرًا.

منزله الصغير له حديقة تحيط بها أشجار للحمضيات، يانعة متدلية ثمارها، تعبق بعطر ليمونها. في فصل الصيف كانت تلك الأشجار تثير فتنة الصغار، ويسال لها لعابهم، يتقافزون فوق الجدران الصغيرة، لا حبا بالليمون فقط، بل حبا في التحدي أيضا. لكن مغامرتهم تلك لم تكن تنتهي على خير، فكلما مد أحدهم يده، دوى صوت نباح مخيف، يزلزل الأرض من تحته، كان الصوت لكلب أسود ضخم، يخرج من بين الأشجار مثل وحش خرافي، عينيه الغارقتين لا ترى وَسَط فرائه الأسود.

على إثر صوته يفر الصغار مذعورين، فتسقط نعِالهم وسط الحديقة.

يبكي أحدهم قائلًا: من يجلب لي فردة نعلي، يلقي الآخر بفردة نعله هو أيضا ويولي هاربًا، تضامنا معه، ومخففًا عنه الخوف من الكلب ومن عقاب والدته.

كنت أراقب كل ما يحدث، من شباك غرفتي الذي يطل على منزله، كم كنت أتمنى في حينها لو كنت صبيا، لتسلقت الجدار مثلهم، حتى وإن فقدت فردة نعلي، لم أكف عن التفكير بجارنا وكلبه المخيف، الذي صار لغزا يؤرق نومي ويشغل تفكيري

سألت والدتي من يقيم داخل منزل جارنا، ولماذا ليس لديه زوجة وأولاد ؟!، ردت بكلمة واحدة: رجل غامض!

- كيف حدثيني

- في يوم من الأيام، ألقى والدك عليه التحية، لم يرد، مرت الأيام والحي تغير إلا هو، ظل بابه مغلقَا وكلبه ينبح، ثم صمتت.

- لا شأن لنا به، كفي عن الأسئلة واهتمي بدروسك فحسب.

-لن أسائل ثانية، صعدت إلى الطابق العلوي، دخلت غرفتي وجلست على سريري، حاولت أن أقرأ لكن بلا جدوى، أنا فقط أتابع الكلمات بعيني، وضعت الكتاب جانبا.

قبل المغيب، نظرت إلى خارج النافذة، كما أفعل كل يوم، أرى حديقة جارنا، الأشجار، والغيوم في السماء تتلبد، الأغصان بدأت تتمايل، وثمة طيور تقف عليها، تحُرك رأسها كيفما يميل الغصن، وصوت ريح تزأر في الأطراف، يرجع لها صدى مخيف، على ما يبدو أنها بدأت تشتد، الأبواب والشبابيك تصطفق، أغلقت النافذة، وعدت إلى سريري، لا أستطيع القراءة ولا حتى سماع الموسيقى، آنا فقط أتابع الكلمات بعيني، وضعت الكتاب جانبا، كانت الليلة الأكثر غموضا وأثارة، كنت فقط أنتظر الفجـر.

في الصباح الباكر، السحب التي تغطي السماء ما زالت على حالها، لا رياح تذكر، المكان كله يبدو ساكنا، كصورة لمقدمة فيلم، سكونا لم يشهده الحي من قبل.

لاحظت شيئا غريبًا، الكلب لم يكن هناك، لا نباح يسمع له، والباب الحديدي لجارنا كان مواربًا، الجميع نيام، والحي بدا مهجورًا، دفعني الفضول، وكانت الفرصة المناسبة، لأجد بها الإجابة على سؤالي، وحل اللغز الذي طالمَا شغل تفكيري، وتفكير الجميع.. تقدمت مترددة بخطوات بطيئة، اقتربت بحذر شديد، وكأني أسير نحو حلبة نزال، في مواجهة وحش كاسر، أمام أنظار وصفير عشرات الحاضرين فوق المدرجات، مترقبين بلهفة ما سيحدث، همست بصوت بالكاد يسمع.

صباح الخـير: لا رد..

اقتربت أكثر نظرت من فتحة الباب، في الفناء الخلفي، كانت تتدلى أرجوحة خشبية قديمـة من شجرة معمرة، تتمايل بخفه كما لو أن أحدا كان جالسا عليها للتو، أو كما لو أن ريح تحمـل ضحكات لطفل لم تعد تسمع !! فجأة تعالى صوت نباح الكلب، كان جديرا بأن يجعل الشعر تحت جلدي يقشعر، تملكني الرعب، هرعت الى منزلي مذعورة .. بفردة نعل واحدة.

***

نضال البدري

 

في نصوص اليوم