نصوص أدبية

منذر الغزالي: لحنٌ تحت الثلج

في ليلة شتوية باردة، حيث تتلألأ أضواء سوق عيد الميلاد وسط صقيع الزمن، قرأت آنّا في أحد مواقع التواصل الاجتماعي خبراً مفجعاً: "وفاة عازف الكمان الذي وُجد متجمّداً تحت ضوء القمر والثلوج. كان اسمه أورلوف مولر، خريج جامعة برلين للفنون عام ١٩٦٢، وعازف كمان موهوب في ألمانيا الشرقية. تألّق في فرقة الإذاعة، ثم في أوركسترا الفلهارموني الوطنية. عندما عُيّن في عمر الخامسة والأربعين مدرّساً للموسيقى في قرية قرب ليبزغ، التقى بآنّا هوفمان…".

كانت آنّا فتاةً رقيقة، بشرتها بيضاء وعيناها زرقاوان تحملان براءةً تخفي روحاً متمرّدة. كان صوتها ساحراً، والغناء شغفها الحقيقي، فُتِن بها أورلوف، فشجّعها ووضع بين يديها ألحانه الرقيقة... "هناك صدقٌ في صوتكِ، آنّا، صدقٌ لا يُعلّم؛ لكنه حقيقي كضوء الفجر. هل تعرفين أن الصوت أحيانا يكون أبلغ من أيّ فكرةٍ نحاول التعبير عنها؟"، قال أورلوف وهو ينظر إليها بعينين تحملان ثقل سنوات من الإبداع المكبوت. أجابت آنّا بخجل، "لكنني ما زلت أتعلم، وأخطئ كثيراً.". ابتسم أورلوف بحنان وقال: "الأخطاء هي التي تمنح النغمة صدقها. الصوت الذي يفتنّ بكماله يُنسى، أما الصوت الذي يلامس القلب فيبقى."

كان يرى فيها أكثر من مغنيةٍ؛ كانت ملهمته وحبيبته. "آنّا، عندما تغنين، يخرج لحنٌ يتسلل إلى أعماق الروح؛ لا تدعي أحداً يسرق منكِ هذا النور... الفنّ هو نافذة الروح على الحرية".  في تلك اللحظة، لم يكونا مجرّد معلّم وتلميذة؛ كان هناك شيءٌ يشبه الوعد بأن شيئاً جميلًا سيولد من هذا اللقاء.

صار اسم آنّا مرتبطاً باسم أورلوف في المهرجانات والإذاعات المحلية، بل أصبح اسمها مشهوراً، واكتفى أورلوف بنجاحها الذي يحمل صدى ألحانه. في مهرجانٍ وطنيٍّ بتمويلٍ حزبيّ، طُلب من موسيقيي الدولة تلحين نشيد الافتتاح. رآها أورلوف فرصةً لآنّا، فصنع لحناً أوركسترالياً مهيباً، غنّته آنّا ببراعة، انتشر النشيد في الإذاعات والمقاطعات الأخرى؛ لكن في تلك الأيام الرمادية، حيث كانت السلطة تراقب كلّ شيء، جاء مندوبٌ حكوميٌّ ليأخذ الأغنية. "اللحن اختير ليُعزف في مؤتمر الحزب أمام قادة الدول الصديقة، والأغنية ستُصبح جزءاً من الأوركسترا الوطنية؛ سيتمّ تسجيلها رسمياً، لكن بصوت مغنّيةٍ أخرى. إنه أمرٌ مهمٌّ للوطن.". الكلمات كانت جافةً كرمادٍ يتساقط بلا وزن؛ لكنها تركت أثراً ثقيلاً على أورلوف. شعر بخيبةٍ مريرة: “لحني صار شعاراً لهم، دعايةً للحزب. أما أنا، فلست سوى شبح".  قالت له بهمساتٍ ممزوجةٍ بالمرارة والألم: "كيف يُمكن لقلوبنا أن تخفق في زمنٍ يخضع فيه الإبداع للأوامر؟"، ابتلع أورلوف مرارته: “هذا نظامهم، آنّا. نحن مجرّد أدوات، لا أسماء.” ردّت آنّا بحدة: “كيف يأخذون لحنك ويتركوننا في الظل؟ صوتي هو الذي جعل النشيد يعيش!”.  تلك اللحظات كانت بمثابة بذرة تمرّدٍ في قلب آنّا، بذرة طالما نادت بالحقّ في الوجود والتعبير... " لن أبقى أداةً! سأغنّي للعالم، سأكون آنّا التي يعرفها الجميع!". لم تجد آنّا مفرّاً من قيود النظام حين بدأت أنفاس الحرية تهمس بطرق الخروج إلى العالم. "الغرب ليس كما تظنين. سيأخذون صوتك؛ لكنّهم لن يروا آنّا، الإنسانة... التي أحبّها." قال لها أورلوف حين صارحته بقرا رها. "أفضل أن أخسر صوتي وأنا أحاول، على أن أبقى سجينةً هنا. سأجعل العالم يسمعني"، ردّت آنّا بعناد.

 سلكت طرقاً خطرةً نحو ألمانيا الغربية، تأمل في عالمٍ يتغنى بالحرية ويزداد فيه بريق الإبداع. رافقها أورلوف مقهوراً، تركا وراءهما كلّ ما يعرفانه، حاملين القليل من المال والكثير من الأحلام المثقلة بالوجع. كان الانتقال إلى ألمانيا الغربية أشبه بالقفز في هاويةٍ مجهولةٍ، أخطرها هو الخوف من إعادتهما إلى ألمانيا الشرقية، وتسليمهما لجهاز الشرطة السرية؛ لكنّ الحلم كان أكثر توهّجاً من كل الحسابات الأخرى.

في الأشهر الأولى، عملا ما بوسعهما للبقاء واقفين على أقدامهما؛ كان أورلوف يعزف في الشوارع وفي زوايا الأسواق، يأمل أن يلتفت أحدٌ ما إلى موهبته. أما آنّا، فقد حاولت الحصول على فرصٍ لأداء أغانيها، لكنها لم تكن تملك سوى صوتها ونغماته النقيّة، في عالمٍ يبحث عن الأسماء الكبيرة والإبهار.

بعد أشهرٍ من الرفض والإحباط، تلقّت عرضاً من أحد المتعهدين الصاعدين لتوقيع عقدٍ يتيح لها تسجيل أغنيةٍ جديدة؛ لكنّ الشروط كانت ثقيلة؛ كلمات الأغنية اختيرت بعناية لتكون "رائجة"، ولحنها كان بعيداً عن الألحان التي اعتادت عليها. في الشقّة الصغيرة المليئة بالنوتات المبعثرة، ينظر إليها أورلوف بصمت للحظات، ثم يتحدث بصوت هادئ: "آنا، العالم سيطلب منكِ دائماً أن تغيّري لونكِ. إذا كنتِ تؤمنين أن هذا هو المدخل للطريق، فلا بأس... لكن لا تنسي من أين بدأنا."

لاقت الأغنية رواجاً.  وقّعت آنّا عقداً، مع المتعهد، للغناء في مطعمٍ شهير. توقيع العقد كان لحظةً مزدوجة؛ بدا وكأنه انتصارٌ بعد شهورٍ من الفقر والتهميش، لكنه، أيضاً، كان بدايةً لفصلٍ جديدٍ من التحديات الداخلية. كان أورلوف وآنّا يعتمدان على بعضهما في مواجهة عالمٍ يبدو لامعاً من الخارج؛ لكن، بدآ يشعران بأنه، في داخله، باردٌ، ومزدحمٌ بالأضواء التي تحجب الدفء الإنساني؛ آنّا تغني تحت دائرة الضوء، بينما جلس أورلوف في الخلفية، يرافقها على كمانه؛ يضع لها ألحاناً لأغنياتٍ جديدة، ويراقب، بصمتٍ، وهي تزداد شهرةً، متسائلًا عما إذا كانت هذه هي الحرية التي سعيا إليها. كانت ألحانه تناسب الأمسيات الهادئة في نهاية الأسبوع، بعد أن يكون (الزبائن) قد ارتاحوا وشبعوا وانتشوا. حقّقا نجاحاً جيداً، وصار للمطعم روادٌ جدد، يأتون من أجل عشاءٍ هادئٍ على أنغام أغنياتهما.

بدأت آنّا تنال الشهرة، وبدأت الصحافة تكتب عن "المطربة الهاربة من قيود الاستبداد الشيوعي"، والعقود تتوالى عليها. غير أن الشهرة لم تكن بالبساطة التي تخيلتها؛ فقد تحوّلت موهبتها، التي كانت تمثّل رمزاً للحرية، إلى سلعة تُستنزف لملاحقة الأرباح؛ زخم الجدول المرهق وفقدانها السيطرة على اختياراتها الموسيقية جعلاها تشعر وكأنها تُستهلك يوماً بعد يوم

أما أورلوف، الذي رأى آنّا تتغير أمام عينيه، فقد اختلطت مشاعره بين الفخر بما حققته والحزن لما فقدته. لقد تحوّل صوتها العذب، الذي أسر قلبه يوماً، إلى أداةٍ لتحقيق مكاسب مادية، بينما ألحانه القديمة بدأت تضيع وسط ضجيج الإيقاعات الحديثة والآلات الإلكترونية. بدا له أنّ الزمن قد تجاوزه هو وكمانه القديم، وهما مجمّدان على كرسيهما خلف آنّا، وأصبح وجودهما نشازاً وسط صالات المطاعم الفاخرة وقاعات الحفلات المزدحمة. صارحها ذات ليلة، بينما كانا يجلسان بعد حفلٍ كبير: "ألحاني كتبتها لروحك، آنّا، لا لتُغنّى في الملاهي وأمام السكارى؛ هذا ليس فننا الحقيقي.”. ردّت عليه، غير منتبهةٍ لرعشة التعب التي تسلّلت إلى صوته: “الفنّ يتغير، أورلوف. ألحانك رائعة، لكنها جزء من الماضي. العالم اليوم يبحث عن الحيوية، عن الإيقاع!”. تملّكته موجةٌ من الحزن واليأس، وقال بصوتٍ يحمل مرارةً خفية: "كنتُ أؤمن أنّ الفنّ هو النور الذي يُبقي الإنسان صامداً في وجه هذا العالم القاسي؛ لكنك أصبحت تلهثين وراء الأضواء، بدل أن تصنعيها... متى أصبحتِ جزءاً من هذا السوق؟". رمى سؤاله ولم ينتظر إجابةً. عمّ صمتٌ ثقيل للحظة، آنّا تدرك عمق سؤاله وصدق المشاعر التي تنبثق عنه؛ لكنها، بين مشاعرها وطموح الشهرة المُغري، اختارت طريقها؛ ردّت، دون أن تلتفت إليه: "كيف نحافظ على صدق صوتنا في زمنٍ لا يُقدّر الإبداع إلا بمقاييس الربح؟". هدوء صوتها وملامح وجهها أثار في أورلوف رعشة قلقٍ غامضة، كأنه أدرك فجأةً أنها أصبحت بعيدةً تماماً، امرأةً ناضجةً في عالمٍ لا يعرفه. وبينما كان يراقبها بصمت، تساءل في نفسه: "متى تغيّرت كلّ هذا التغيير؟". كان هذا آخر ما فكّر فيه، تحت مظلّةٍ من صمتٍ ثقيل، وسكونٍ طاغٍ.

تبدّلت الأحوال مع سقوط جدار برلين وتوحيد ألمانيا، مما فتح المجال لاستقطاب الفرق والمغنيات من الشرق. أسّست آنّا فرقةً صغيرةً ضمّت عازف جيتار كهربائي وعازف إيقاعات، بالإضافة إلى عازف كيبورد شاب يحمل وشماً كبيراً على ذراعه وحلقاً في أذنه اليسرى، شخصية ذات حضورٍ قويّ بين جيل الشباب. سرعان ما أصبح له تأثيرٌ كبيرٌ على اختيارات آنّا وقراراتها، حيث تولّى إدارة عقودٍ مربحةٍ لها مع ملاهٍ فاخرة، دون اكتراثٍ لاعتراضات أورلوف وتحذيراته.

في إحدى الليالي، بينما كان أورلوف يجلس على كرسيٍّ خشبيٍّ قديم، قرب النافذة، يعزف بهدوءٍ على كمانه، جاءت آنّا مبكّراً لتخبره أنها ستنتقل للعيش في شقّةٍ أوسع، وأنها ستترك له الشقة ليعيش فيها، مؤكّدةً أنها ستتكفل بدفع الإيجار وتكاليف المرافق، كنوعٍ من الشكر والامتنان للشخص الذي كان ركيزة نجاحها.

توقف أورلوف عن العزف، ونظر إليها طويلاً، سألها، وهو يضع الكمان على ذراعه كأنه يحتضنه: "هل تشعرين أنكِ ما زلتِ أنتِ، آنّا؟"، جلست آنّا بصمت لثوانٍ طويلة، وقد صدمها سؤاله المفاجئ، قالت وهي تنظر إلى يديه على الكمان: "لا أعرف. أحيانا أشعر وكأنني أعيش حياةً ليست لي؛ لكنني أملك شيئاً على الأقل.". اقترب منها، يتحدث بنبرة أكثر دفئاً: "لكن ما تملكينه ليس حقيقيّاً، آنّا؛ إنه وهم... أتعلمين، عندما كنا في الشرق، كنتُ أرى نفسي جزءاً من شيءٍ أكبر. ربما لم يكن مثاليّاً؛ لكنني كنت أشعر أن الموسيقى كانت تخدم الناس، تمنحهم شيئاً يتشبثون به وسط كل ذلك البؤس."

خلعت آنّا حلقها ووضعته على الطاولة، قالت بشرود: "تخدم الناس؟ كلّ لحنٍ عزفته هناك كان يُستخدم لتجميل صورة نظامٍ لا يهتمّ إلا بالبقاء. لم يكن هناك مكان للفرد، أورلوف. كنتَ مجرّد ترسٍ في آلة ضخمة.". نظرت إليه بهدوء، وسألته: "هل تفضّل أن يعو ذلك الزمان؟". تنهّد أورلوف، وهو ينظر إلى الكمان: "لا، لا أريد أن يعود؛ لكنني أريد أن أجد مكاناً لا أضطر فيه للاختيار بين أن أكون ترساً في آلة، أو سلعةً في سوق. أريد أن أكون إنسانًا، فقط إنسانًا."

كانت كلماته الأخيرة كأنها جدار سميك، وضع حدّاً لكل كلماتٍ بعدها. صمتت آنّا، بين الضحك والبكاء. طالت برهة الصمت، وصار الكلام عصيّاً. أيقن أنه فقد آنّا للأبد. "استثمري في روحكِ آنّا، لا في زخم الأضواء الزائفة!"، قال دو ن أن ينظر إليها، حمَل كمانه وغادر بهدوء.

عاد يجول الشوارع، يعزف للمارة، يكتفي بما يُلقونه في وعائه. كان يعزف حبه القديم، وخيبته المزدوجة.  كان كمانه يبكي جحود دولةٍ وجحود امرأة.

أما آنّا، فقد أصبحت مطربة بوب شهيرة برفقة عازف الكيبورد الذي جرّه طموحه إلى أرض الشهرة والفرص. رحلت آنّا إلى أمريكا مع عازف الكيبورد؛ لكن سرعان ما تحطّمت أحلامها، ولم يجد صوتها مكاناً وسط مؤسسات الشهرة المتوحّشة، فانتهت تغني في باراتٍ رخيصة، وتحوّلت إلى مدمنة كحول ومدخّنة شرهة، بعد أن تخلى عنها عازف الكيبورد الشاب..

في ليلته الأخيرة، عزف أورلوف في ساحة بيتهوفن حتى سكنت الشوارع. لم يتوقف كمانه، يروي قصة موهبةٍ سُرقت، وحبٍ ضاع؛ غطاه الثلج، وصمت قلبه، تاركاً لحنه الأخير يتردد في الصقيع.

عندما قرأت آنّا الخبر في الصحيفة، شعرت بأن شيئًا ثميناً انكسر داخلها؛ قالت وكأنها تخاطب صورة وجهه، "لقد كنت دائمًا تقول إن الفن مثل الكمان، أوتاره حساسة، إذا لم تُشدّ بالشكل الصحيح، فقد تتقطّع… وأظنني شددت عليك أكثر مما تحتمله روحك الحساسة."

وقفت تحت ضوء القمر الذي كان ينعكس على الجدران المتجمدة، وغنّت اللحن كما غنّته أول مرة؛ بلا إضافات، بلا زخرفة، فقط صوتها وروحها. لم تُغنِ لجمهورٍ أو من أجل الشهرة، بل غنّت لذكرى أورلوف ولتُعيد لنفسها حريتها؛ وبينما كان صوتها يعلو وسط الهدوء البارد، أدركت أنّ الحرّية ليست مكاناً أو وعداً خارجياً؛ إنها فهم عميق للنغمة التي تسكن قلب الإنسان.

***

قصة: منذر فالح الغزالي

Wachtberg, 20.06.2025

في نصوص اليوم