نصوص أدبية

سعاد الراعي: طيف.. على حدود العدم

بعد عبور البحر من تركيا إلى اليونان، كما لو أن الأمواج فتحت لها باباً من زبد ومجهول، لم يكن الطريق إلى الحلم قد اكتمل بعد. كانت وجهتها القادمة ألبانيا، ومنها نحو وسط أوروبا التي طالما سكنت أحلامها مثل مدينة بعيدة تتلألأ خلف ضباب القدر. ترافق والدتها المسنّة، تحملها كما تحمل الأرواح أثقالها الثمينة، بينما بقي شقيقها في اليونان، يغامر بالاستقرار حيث انتهى به الموج. اتفقوا مع مهرّبٍ وصفه العابرون قبلاً بأنه رجل لا يساوم على صدقه، ولا يخون الوعد، وحدد يوم الرحيل كمن يخطّ على الرمل موعداً مع المدى.

طيف.. اسمها يشبه ملامحها الشابة، عابرة كنسمة، شفافة كظل في صباح شتوي. عيناها واسعتان، لكنهما محروستان بقلق رقيق، كأنهما نافذتان تطلان على حياة لا زالت تخشى الانكسار. التقيتها صدفة في محطة برلين، حين كنت أنتظر قطاري عائدة من رحلة عمل قصيرة. تقدمت نحوي بخطوات بين الجرأة والتردد، تسأل بألمانية متعثرة عن وجهة القطار والرَّصيف الصحيح. كان صوتها خافتاً، يتلمس الطريق في لغة لا تتقنها، قلت: "يمكننا أن نتحدث العربية، إن كانت لغتك."  انفرجت أساريرها، كمن وجد في صحراء غريبة جرعة ماء. ابتسمت، وبدأت الأسئلة تتدفق من شفتيها كما تتدفق الحكايات حين تجد من يصغي. سألتني عن وجهتي، وحين علمت انها ذات وجهتها تهلل وجهها بشرًا. سألتني عن اسمي وموطني، ثم بادلتني تعريفها بنفسها وأصلها. كنا نتحدث، والوقت ينساب من بيننا مثل نهر هادئ، حتى دخل القطار، فاصطحبنا معه، لا كمسافرين فحسب، بل كمَن يحمل في حقيبته بذور حكاية كانت قد زُرعت بالفعل في صمت المقاعد والمسافات لبداية قصة لم تُكتب بعد.

حين توقّف القطار في محطّة مدينتنا، كان صوت احتكاك العجلات بالسكك يصرخ مثل صفيرٍ طويل يودّع الرحلة. ارتجّ الرصيف تحت وقع الحديد، وانبعثت من العربات أنفاسٌ دافئة امتزجت بضباب الظهيرة البارد، فتشكّلت غلالة رقيقة كأنها ستارة تفصلنا عن بقية العالم. على الجدران العالية، ارتطمت أصداء أصوات المسافرين بأزيز الريح، وتردّد النداء الميكانيكي باسم المحطّة كصوتٍ بعيد يخرج من بطن آلة عجوز.

كانت طيف واقفة أمامي، يلفّها معطف داكن يضيق على جسدها النحيل، لم تكن تبتسم، لكن في عينيها بريق خافت يشبه شرارةً تقاوم العتمة. بصوتٍ منخفض، أقرب إلى بوحٍ على عتبة الوداع، قالت إنها ما تزال في النزل المخصّص للاجئين، وأنها تسعى لإيجاد منزل بعدما حصلت على الإقامة في ألمانيا. أضافت أنها تدرس الألمانية، بصبرٍ يشبه مشي المسافر في طريقٍ مغمور بالثلج.

ابتسمتُ لها وأنا أقاوم ذلك الشعور المزدوج بالفرح والحذر:

"ممتاز، أنتِ شابة طموحة، والمستقبل أمامك، أتمنى لكِ التوفيق."

مددت يدي لأصافحها وأغادر، لكنّها أوقفت حركتي بطلبٍ مباغت:

"أيمكنني الحصول على رقم هاتفك؟"

ترددتُ، وأحسست للحظة أن بيني وبينها جدارًا من هواءٍ ثقيل. قلت بسرعة، محاوِلةً التملّص:

"ربما في المرّة القادمة، فأنا الآن على عجلة."

لكنها تقدّمت خطوة، وكأنها تخترق الضباب بيننا. كانت نبرتها هذه المرّة أكثر قربًا ودفئًا، وفيها حافّة خفيّة من القلق:

"وكيف ذلك؟ لقد التقينا صدفة، وبصراحة.. أنا ارتحت لك. لاحظت أن لغتك جيدة، وربما سأحتاج مساعدتك."

أجبتها محاوِلة أن أبقي المسافة بيننا واقعية:

"في المراكز الاجتماعية هناك مترجمون، ويمكنهم مساعدتك إن احتجتِ، فهذا عملهم."

تردّدت قليلًا، ثم امتدّت يدها لتقبض على يدي، قبضًا لا يعرف التردّد، وفي عينيها التماعة مزيج من الرجاء والخوف. قالت بصوتٍ يوشك أن ينكسر:

"لا أثق بالمترجمين.. وبصراحة، لقد وثقت بك. ثقي أنني لن أضايقك، ويمكنك في أي وقت أن ترفضي إذا شعرتِ أنني أثقل عليك. سأكون ممتنّة لك في جميع الأحوال."

كان في كلماتها شيء يتجاوز الطلب العابر؛ كان نداء روحٍ تبحث عن مأوى. عندها أعطيتها رقمي، وقلت:

"أتمنى أن أستطيع مساعدتك."

فاجأتني حين تقدمت قليلًا، وطبعَت على وجنتي قبلة امتنانٍ سريعة، خجولة، لكنها تركت دفئًا مفاجئًا على جلدي. ارتبكت، ثم ابتسمت لها، ولوّحت مودّعة. ظلّ وجهها أمامي، محاطًا بضباب المحطّة وصوت القطار وهو يبتعد، كصورةٍ من مشهدٍ لن يغادر ذاكرتي، على أمل أن يصلني عنها يومًا خبرٌ سعيد يليق بعناد عينيها.

مرّت الأيّام، وملامح طيف تراجعت في ذاكرتي كما يتراجع صدى بعيد بين جدران مدينة غريبة. كنتُ قد طويتها في زاوية النسيان، لولا أنني حين رويت لزوجي قصّتها وما دار بيننا، أبدى رغبةً ملحّة في أن أمدّ لها يد العون، قائلاً:

"ربما هي حقًّا تحتاج إليك، فلا تُغلقي الباب قبل أن تطرقه."

ابتسمت بفتور، وفي داخلي صوت آخر يهمس: وماذا لو لم تكن تحتاج سوى شفقة عابرة لا أملك أن أقدّمها؟ قلت له:

"سنترك الأمر حتى تتصل.. وسنرى."

 ثم تركت الأمر يذوب مع تفاصيل الحياة اليومية.

وفي صباحٍ رماديّ الضوء، كان الهاتف يرنّ من رقم مجهول. تركته يتوقّف دون أن أجيب. لكن دقائق قليلة مضت، وإذا برسالة نصيّة تنبثق على الشاشة:

"أنا طيف.. هل لي بمهاتفتك والتحدث معك؟"

توقّفت عند الاسم، كمن يلمح من بعيد ظلّ وجهٍ كان يظنّ أنه غاب. كتبت ردًا قصيرًا:

"أهلًا وسهلًا."

لم أكن قد أعدت ترتيب أفكاري حين جاء رنين الهاتف مرّة أخرى. ضغطت على زر الإجابة، فإذا بصوتها.. كان فيه رجاءٌ خافت، كما لو أنها تقف على حافة جملة وتخشى أن تسقط. قالت:

"هل لي بلقائك هذا الأسبوع.. إن أمكن؟"

سألتها بلهجةٍ تحمل الحذر وأنا أزن الكلمات:

"هل الأمر ضروري؟"

أجابت دون تردّد هذه المرّة:

"نعم، أرجوك.. فأنا أعاني من آلام وأودّ الذهاب إلى الطبيبة النسائية."

تسلّل التعاطف إلى صوتي رغم محاولتي ضبطه:

"أنا أفهم.. ومتى الموعد؟ بإمكاني أن ألتقيك في عيادة الطبيبة، أليس هذا أفضل لكلينا؟"

تردّد صمت قصير، وكأنها تبتلع شيئًا بين الحلق والقلب، ثم جاء صوتها هادئًا لكنه ثابت، يحمل إصرارًا هادئًا:

"لا.. أودّ أن ألتقيك قبلها، وكما تشائين وأينما تشائين."

تساءلت في داخلي: ما الذي تحتاج أن تقوله قبل الطبيب؟ وما هذا الإصرار الذي يلبسه صوتها مثل معطفٍ ثقيل في يومٍ بارد؟ لكنني قلت فقط:

"أين تقيمين؟ اكتبي العنوان، وسنلتقي خلال عطلة نهاية الاسبوع.. ما رأيك؟"

انفرج صوتها فجأة، وكأن حملاً هائلًا انزاح عن كتفيها، جاء صوتها مشبعًا براحةٍ مفاجئة:

"أنا ممتنّة وشاكرة لك كثيرًا.. لقد أزحتِ عن كاهلي جبلًا كان يثقل أنفاسي."

وفي تلك اللحظة، شعرت أن كلماتها لم تكن مجرد شكرٍ عابر، بل كانت تنهيدة روحٍ وجدت فجأة من يلتقطها قبل أن تهوي. في خلفية المشهد، كان صوت الريح يمرّ عبر نافذتي كأنّه يحمل معه شيئًا من برد الغربة الذي يحيط بها، فيما ارتسم أمام عينيّ وجه طيف من جديد، هذه المرّة أكثر وضوحًا،

وجدتُها واقفةً عند محطة الباص، كأنها تنتظر منذ دهور، وعيناها تلمعان بوميضٍ دافئ يشبه الرجاء الممزوج بالامتنان. ما إن صافحتني حتى ارتمت عليّ بعناقٍ حار، ذلك العناق الذي لا تكتفي فيه الأذرع بالتشابك، بل تشارك فيه الروح كلها. كان في حضنها اعتراف صامت بفضلٍ لم أقدّمه إلا بدافع إنساني، لكنها تلقّته وكأنه شريان حياة.

سألتها إن كانت قد وجدت سكن، فأجابت بنبرة يكسوها شيء من الخيبة:

ـ الحصول على سكن لشخص واحد أمر صعب.. أغلب الشقق معدّة للعائلات.

تردّد في خاطري سؤال ظلّ معلقًا في ذهني: ألم تقل لي من قبل إنها حين غادرت اليونان اصطحبت والدتها معها؟ لكنني آثرت الصمت، كأنني أُرجئ مواجهة ظلّ ما سيظهر لاحقًا.

قالت وهي تبتسم ابتسامة خفيفة:

ـ زميلتي في الغرفة ذهبت لزيارة أختها.. سنكون وحدنا.

دخلتُ معها، فاستقبلتني رائحة البخور ممزوجةً بعبق القهوة المغلية، رائحةٌ لها هيبةٌ هادئة، تمنح المكان قدسيةً لا تراها العين بل يلمسها القلب. في منتصف الغرفة، طاولة مُهيأة بعناية للاستقبال: قالب كيك يلمع تحت ضوء النهار، أقداح شاي، فناجين قهوة صغيرة أنيقة، وأوانٍ تفيض بالمكسرات من كل صنف.

نزعت معطفي، فتناولته مني، وعلّقته، ثم جلست بدعوة متكرّرة منها، وكأنها تخشى ألا أستقرّ في مقعدي. عيني وقعت على الصور المعلّقة أمامي على الجدار، فتسمّرت عليها رغمًا عني.

قطعت شرودي بصوتها:

ـ تشربين الشاي أولًا أم القهوة؟

ـ رائحة القهوة بالهيل مغرية جدًا.

ابتسمت وسكبت لي فنجانًا برغوته الطازجة، بينما كانت الصور تواصل اختراق نظري، كأنها تحاول البوح بسرّ دفين. أشارت إلى إحداها، والدمع يثقل رموشها:

ـ هذه أمي.. هنا كنّا صغارًا، وأنا الصغرى بين إخوتي الثلاثة.

قلت بلطف:

ـ اجلسي.. لا داعي للبكاء.

جلست تمسح دموعها التي أصرّت على الانهمار، فأحسست بحرجٍ جعلني أضع كفّي على كتفها، مؤاسيةً:

ـ كلّنا نحمل أثقال الهموم، لكنّها جزء من نهر الحياة الذي لا يتوقف.. وأنتِ ما زلتِ شابة وجميلة، والبدايات ما زالت أمامك، بأفراحها، إن شاء الله.

بابتسامة باهتة قالت:

ـ أشعر أنّك قريبة مني كثيرًا.. أحببتك كما أحب أمي.

عندها اجتاحتني رغبة غامرة في احتضانها كما يُحتضن طفلٌ فقد أمانه.

ثم أفرغت قلبها دفعة واحدة، بصوتٍ يختنق بين شهقات البكاء:

ـ أمي ماتت في الطريق.. كان ذلك حين تركنا المهرّب ليلًا في بيتٍ مهجور، وسط غابة على الحدود الألبانية، بعد أن أخذ كل ما نملك. تفرّق الجمع، وبقيتُ مع أمي وشابين صديقين لأخي، رافقانا منذ البداية وساعداني في رعايتها. انتظرنا طويلًا أن يعود، لكن بدلًا من خطواته، سمعنا أصواتًا تتسلل من بين الأشجار.. فهربنا.

توقفت لحظة، كأنها تعيد مشهدًا محفورًا في ذاكرتها، ثم تابعت:

ـ أمي لم تستطع الجري.. كان البرد ينهش عظامها، والجوع يثقل أنفاسها، والطريق وعرة، فحملها أحد الشابين على ظهره، أما الآخر فمضى بعيدًا، يبحث عن نجاته. أمي كانت تعاني من السكر والضغط، وكانت تسعل بصوت مبحوح، تحاول أن تكتمه.. توسّلت إلينا مرارًا أن نتركها ونهرب.

ثم شهقت، وعيناها تمتلئان بالذعر:

كانت الغابة تمسك بأنفاسها، والليل يجرّ فوقها عباءته السوداء حين بدأت نقاط الضوء تلمع في البعيد، وتهتز مع وقع أقدامٍ غامضة. كانت أضواء المصابيح تقترب كأعينٍ متوحشة، حتى خرجوا من بين الأشجار فجأة، كأن رحم الظلام نفسه أنجبهم. أسلحة طويلة في أيديهم، ورشاشات مشدودة إلى الأكتاف، لكن زيّهم لم يكن زيّ شرطة.. بل ملابس سوداء عادية، ووجوه مموهة بالقماش، كأنهم يخفون عنّا حتى ملامح ادميتهم. لا يُرى منهم سوى قبضة السلاح، وبرودة الحديد، ونصل الليل المسلط فوقنا.

لم أحص عددهم، فقد التفوا حولنا كالأشباح، وأفواه الرشاشات تحدّق في جمجمتك قبل عينيك. أشاروا بصمتٍ قاسٍ إلى الأرض، أمرونا أن نجلس ونشبك أيدينا خلف ظهورنا. لكن أمي.. أمي التي ورثت صلابة الجبال، لم تنحنِ لأمرهم. ارتفع صوتها من قلب الخوف، استغاثة وشتيمة في آن واحد، كأنها تمزق صدر الليل لتخرج منه.

اندفع أحدهم من خلفها، ضربها على ظهرها بقسوة، فترنحت، لكنها لم تسقط في روحها، بل أطلقت صرخة أشدّ حدة، فأطبق بعقب الرشاش على رأسها.. كانت الضربة ثقيلة كحكم إعدام، فتهاوت، والدم يسيل من شعرها كجدول أحمر يفترش وجهها والتراب.

صرخت باسمها، وركضت نحوها، لكن عاصفة من الألم انقضّت عليّ بضربةٍ او ضربات جعلت الأرض ترتطم بوجهي، ثم غاب عني كل شيء في عتمةٍ غليظة.

استيقظت على حفيف الفجر، ونشيج يتسلل إلى أذني. كان الألم يثقل كل عصب، وكل مفصل، حتى الهواء كان يؤلمني. التفتُّ بصعوبة، فرأيت الشاب الذي كان معنا منكسرًا، يلطم رأسه وينوح، وكأنه يحاول أن يوقظ روحه من الكابوس. همست أسأله: "أين أمي؟" لم ينطق، بل أشار إلى مكانٍ قريب. هناك.. كان جسدها مسجى على الأرض، مغطى بشالها الذي اعتادت أن تدفئ به كتفيها.

عند هذه اللحظة، انكسرت طيف.. انكمش صوتها تحت وطأة الدموع، وارتعشت يداها كأوراقٍ في ريحٍ باردة. قلت لها برفق: "كفى.. خذي نفسًا، لا داعي لان تكملي، فقط استريحي." التقطت قدح الماء، ارتشفت منه كأنها تبتلع مرارة الجمر، ثم قالت بصوتٍ مبحوح:

"لقد خسرت كل شيء.. أمي، ونفسي، وحتى الشاب الذي كنت أتشبث به لأفهم ما جرى.. لم ينطق. وحين وصلنا وقدّمنا طلب اللجوء، تبخر أثره. ومنذ تسعة أشهر وأنا أعيش مع ألمٍ لا يفارقني، عاجزة ومترددة حتى عن دخول عيادة طبيب، حتى ولو كان معي مترجم."

***

سعاد الراعي

2025.08.14

في نصوص اليوم