نصوص أدبية
حميد بن خيبش: ريح شمالية

مد يده مصافحا ثم دسها في جيب سترته. تلك النظرة الحائرة لم تفارق عينيه، كأن في الروح اضطرابا. شمالي الطبع كأنه رضع من غيم طنجة المالح. بياضه مشوب بحمرة وتحت الجفنين خطان أزرقان من فرط السهر.
جلسنا في المقهى قليلا ليفصح عن رغبته في تقاسم الحجرة الملحقة بقاعة الدرس. وعلى الطريق المتربة سرنا محملين بأعباء السفر. تكورت على جبينه حبات العرق كأن شمس الخريف لا ترصد غيره. حكى عن مواهبه في " العِشرة"، وانبساطه مع الإخوان لتمتين الصحبة. شر لا بد منه! حدثت نفسي المولعة بصمتها في كنف غابة البلوط.
تحوك ليالي الخريف همسنا فلا يسمع في الخارج غير عويل الريح. حديثه المقتضب يشوبه التردد. لم يفصح عن ماضيه إلا بعد مكالمة عاصفة:
- ضقت ذرعا بزيجة لا تحترم قواعد الاشتباك. لسذاجتي وضيق حالي لم أقلّب الأمر على وجوهه. قالت: هيت لك، فصحت: ما أجملك! ولُف الحبل بهوادة ليخنق رغبتي في الحياة. بين أربعينية ناضجة وغلام في العاشرة قربت نذور السعادة لكن..
بكى واشتكى ثم لوّح بخيار المحاصَر: علي وعلى أعدائي! جاريته قليلا وأنا أشتم هدنة سابقة في المقهى. كل روح تقول لا مساس قبل أن يهزمها التشظي. عليك أن تحفظ نسل آدم حتى وإن عشت الخطيئة مرتين.
- هاجِر، قلت، فأنت الشمالي المولع بالبحر والمرساة. ألق الشباك لعل حورية تسحبك إلى حلمها البلوري. في الضفة الأخرى فرص أخرى، وبلاد تأخذ لتعطي!
بكى واشتكى، ثم حكى عن سداد الديون، وبنوك تمضغ لحمه الحي منذ شهور. شر لابد منه! حدثت نفسي المولعة بصمتها في كنف الهموم. ليس على ظهرها مستريح. من يملك كمن لا يملك، سواسية نحن أمام تلك الهاوية التي تسحب العمر.
- أتدري، قلت، بأن الموظف هو صخرة سيزيف التي يحملها إلى القمة ثم تتدحرج في عبثية لا تنقضي؟ حياتك لن تمنحك فرصا أخرى ما دمت مصرا على رتابتك. ستعثر على زوجة ودخل شهري، لكنك لن تجد السعادة مرتين!
كنت أقذف بالشمالي في غربة أرحب، حيث يُلمّع المرء إنسانيته ليحتمل العيش مع أعداء التاريخ والهوية. أثنى على رأيي لكن التردد يشلّ عزيمته. عوّل على استرداد نصيبه من مدخرات التهريب وسمسرة الأراضي. عليه وعلى أعدائه!
مضى أسبوعان قبل أن يهاتفني شاكيا غدر الزمان. من كانوا جيران الأمس تلذذوا بالفرجة على معركة صغيرة دارت رحاها على عتبة داره. تجردت الزوجة من كل معاني الشرف وهي تقذفه بكومة ملابس مما تبقى في دولابه. ترمقه نظرات الجيران بشماتة كأنه الجاني لا الضحية.
- ضحية؟ أجبتُ باستنكار وأنا أعيد على مسامعه عذر ضيق اليد الذي يبرر زيجة رمادية. البحر أوسع من الشباك التي صادتك طائعا لا مكرها. لكنها الحياة السهلة التي يطمح إليها جيلك ممن تلعب به الشَمول!
أرهفت السمع لوقع أقدام تبعثر سكون الليل. طرق خفيف على الباب ثم جسد متهالك يرتمي على الفراش. العينان مثقلتان بالسهر، بينما الشفتان تنفرجان عن حروف مُجهدة:
-- ريح شمالية عصفت بقاربي، لكني نجوت!
***
حميد بن خيبش