نصوص أدبية

عبد الله الزعبي: مخطوطة الأقنعة المتغيرة

(أبلغُ السكوتِ أن تصنعَ من الهدوءِ جسرًا، يعبرُ عليه الآخرُ.. فيجدُ نفسَه يبحثُ عن مرفأٍ لا عن معركة).. عبد الله الزعبي.

لَيْسَ كُلُّ سُكُوتٍ اسْتِسْلَامًا.

انْفَكَّ مشبك حمالة صدري وأنا أتحسس ظهري، فسقط ذلك الإبزيم الذهبي الرقيق — الذي لم يُختَرْ لقوامي، بل لقوام ليندا — واستقر في كفي هامدًا، بينما مرت في ذاكرتي أصداء ضحكتها كشظايا بلور مكسور. حينئذٍ، تعالى هدير قطارات منتصف الليل في برلين وطغى على كل صوت، بينما كانت شخصيتي المختزلة في تقمص السيناريو تؤدي الدور الذي أراده بإتقان. بيد أن شخصيتي الكامنة ظلت متوارية خلفها، متيقظة في ترصد صامت — ليس استسلامًا، بل استعدادًا متوثبًا للتحرك، كقوس مشدود على وشك الانطلاق.

مضت ثلاثة أسابيع، وكنت أظنّ أنَّ ما بيننا فنٌّ — فنُّه هو تحديدًا. لكنَّني الآن أتبينُّ مواضعَ التصدُّعِ بوضوح؛ أناملهُ تستقرُّ على نحر ليندا، واسمي الحقيقيُّ يكادُ يختنقُ في حنجرتِه كسطرٍ مُلقىً على قارعةِ الإهمال. كانت صفحاتُ النصِّ لزجةً نديةً، كأنها تبللت بأنفاس نبيذ، وحين باعدت بينها، تضاءلت حروف دوري المعاد كتابته، بينما اكتظت هوامشُ الصفحاتِ بملاحظاتٍ تفصيليةٍ عن ليندا — كزاويةِ معصمِها الدقيقةِ وهي تشعلُ سيجارة، والتجويفِ فوقَ نحرها حيثُ تتجمَّعُ خيوطُ الضوء. أما أنفاسي، فقد اختُزلتْ إلى مجرَّدِ تعليماتٍ أدائيَّة.

نشأت قصة حبنا عصيانًا، كنجوى مؤامرة في وجه عالمٍ يفرض الإذعان، أو هكذا خامرني الظنّ. مرّر زوجي أصابعه المرتعشة على حمالة فستاني. "ماذا لو نسينا ذواتنا قبل رفع الستارة؟" سأل، وإبهامه يتشبّث بالدانتيل بتوتر. ظل السؤال معلقًا بيننا كنصلٍ متأرجح في الهواء.

ضحكة إيلينا شقّت ضجيج الزفاف، حادّةً متوهجةً كلمعة فستانها الزمرديّ. قالت، "الرجال جامِعو النسوةِ," ثم أكملت، وإبهامها يترك أثرًا على نقطة نبضي، "ينسون رؤيتهن حقًا." في تلك الليلة، وضعتُ عود الفحم على فخذي — لا لاختبار مرونة بشرتي، بل لأرسم حدود ما أهدرتُهُ منّي. وعندما عثرتُ على صفحات السيناريو، كانت تفوح بِآثَارِ مَآقِيَ جَافَّةٍ... وتلمع كَحُلِيِّ أُمِّهِ — تلك الحواجز البرّاقة التي توهّمناها فنًّا.

تتبعنا حركات ممثلاتٍ على شاكلةِ إيلينا — "تلكَ..." تمتمَ في أذني، مُفترضًا أنني أعرفها. "أرأيتِ كيفَ تنبثقُ ابتسامتَها غيرِ مفتعِلة؟" لاحقًا، كنتُ أُطْبِقُ على المشبكِ الكسيرِ حتى يدمغ الذهبُ على كفيِّ خطوطًا باهتةً — تبدو كأهلةٍ صغيرةٍ، لعلَّها كانت في عوالمَ أخرى، هويتي.

غرزَ المشبكُ المكسورُ حدَّهُ في راحتي — لم يكنْ حادًّا بما يكفي لإسالةِ الدَّم، لكنَّهُ أيقظَ فيَّ يقينًا بأنني ما زلتُ أشعر. في الخارج، كانتْ قطارات الفجرِ تطلق صريرًا مكتومًا على مساراتها، بينما تخترقُ مصابيحُها ستائرَ غرفتنا بخطوطٍ عابرةٍ من الضوء. كانتْ تُضيءُ هيئةَ جسدِهِ متقوقعًا تحت الأغطية، وكتفاهُ مستديرانِ في نومِهِ ككتفي صبيّ. لم يكن صانعًا للأوهام، بلْ رجلٌ نسيَ كيفَ يشتهي دونَ نصِّ سيناريو مكتوب.

تذكرتُ مرسمَ إيلينا — كيفَ انصهرَ الشمعُ تحتَ أناملي الحارةِ في اللوحةِ المتشققة، فانثنتْ شفتاها بابتسامةٍ عارفةٍ، وقالتْ كمن يُلقي حكمةَ الأزل: "الحرارةُ تكشفُ عن الحقيقة." فكانتْ عيناها تُقرّانِ بكلِّ ما أدلينا بهِ من أكاذيبَ لذواتنا. كانَ عودُ الفحمِ المسروق يرزحُ في درجِ خزانتي كذنبٍ لم يُكفَّرْ عنه. لم أُقدِمْ على استخدامهِ بعدُ، بلْ ظللتُ أضغطُ بطرفهِ الحادِّ على فخذي بين الحينِ والآخر، كأني أختبرُ متانةَ بشرتي إزاءَ الألمِ.

ارتجفَ الغطاءُ قليلًا. "عُودي،" تمتمَ بها ثانيةً بصوتٍ أثقلَهُ النُّعاسُ وخلفَهُ ظلُّ شيءٍ آخر... لم يكُن طلبًا، بل استجداءً. ولأوَّلِ مرَّةٍ منذُ شهور، التقطتُ ذلك التَّمايُزَ الخفيَّ في نبرتِهِ.

التفتُّ عن المرآةِ والمشبكُ لا يزالُ مُحكمًا في قبضتي كشاهدٍ صامت. تعلَّقتْ بأسارير أصابعي ذرَّاتٌ ذهبيةٌ كغُبار طَلْعٍ ناعم. لاحقًا، سأنقشُ أثرها على صفحةٍ بيضاءَ من كرَّاسي المنسيَّة — لا صورةً لليندا، ولا له، ولا حتى لإيلينا، بل ظلًّا مُشعًّا لامرأةٍ تتبلورُ من عجينِ الشموع.

وفي ضوء المطبخِ البارد، انفرجتْ كفي فتناثرت الذرّات الذهبية على المنضدةِ — كلٌّ ذرة منها كشظيةٍ من بهاءِ ليندا المستعار. أطلقت آلةُ القهوةِ طقطقةً باهتةً، كصوتٍ لا يليقُ حتى بالسيناريوهاتِ التي لعبنا أدوارَها ذاتَ يوم. وحينَ ظهرَ في عتبةِ البابِ، استقرَّ بصرهُ على معصمي العاري — لا عبق ياسمين، لا دفء فانيليا — ثمّ هوى نحوَ عودِ الفحمِ المُهمَلِ قربَ سلّةِ الفاكهةِ. لم ينطقْ. ولم أنطقْ. لم يعدِ الصمتُ بيننا مجرّدَ فاصلةٍ، بلْ إزميلًا، يهشِّمُ آخرَ زيفٍ لما تظاهرنا به.

تقافزت الذرات الذهبية على سطح المنضدة مع مرور القطارات بصريرها العابر، فلم تعد كالأبراج السماوية، بل مجرد فتات متناثر. مررت بإصبعي بينها، تاركة أثرا ربما كان فيه انعكاس ليندا يلمع ذات يوم. أما خياله المرتسم على مرآة النافذة، فكان يرسل نبراتٍ عهدتها من نصوص طواها النسيان، غير أن القائم بباب الدار، لزم سكوتا كأنه قربان يقدم. ثم تدحرجت عصا الفحم بيننا لتستقر عند تفاحة مكدمة، تاركة بطرفها وَسْمَةً رمادية باهتة على قشرتها.

كان درج غرفة النوم مواربًا، احتضن في جوفه نصوصًا تفصيلية لنحر ليندا ذات مرة. وحين غاصت راحة يدي في المساحة الفارغة، لم يلامس بشرتي ذاك الانطباع المتخيل لنصوصه المصممة بدقة، بل شعرت بملمس الخشب العاري الخشن تحت أصابعي. وبقيت هناك آثار فحم خفيفة، كأصداء باقية من تعليماته للسيناريو التمثيلي — لم تعد فنًا، بل مجرد ذرات غبار تُنذر بالزوال.

كانت رسالة إيلينا المغلقة راسخة تجثم في جيبي كحمل من الذكريات، وبصمة إبهامها القرمزية تتلاشى بين أناملي المضطربة. تتبعت الوَسمةَ — ليست الضربة الجريئة التي طالما رسمتها على صورها، بل حافة تتضاءل، كحقيقة زلت من بين أصابعنا. تسللت أصابعي نحو نحري — لم يعد مشهدًا مرسومًا بعناية، بل مجرد التقاء جلد بعظم. وصار الدرج الخاوي يئن اتساعًا. كثيرًا ما يغفل الرجال جامعو النسوة عن رؤيتهن حقًا. وبقيت وسمة الفحم الرمادية على التفاحة تزداد عتمة كلما انسل ضوء الصباح من خلال الستائر.

وقف في المدخل، يحمل كوبين من القهوة — كوبه الأسود الخالص، وكوبي المحلى الذي توقف عن التظاهر بأني أحب مذاقه. تصاعد البخار بيننا كظل كل النصوص التي أحرقناها يومًا. وعندما تلامست أصابعنا خلال تبادل الحديث، لم أشعر بوله "ليندا" الاستعراضي، ولا بنظرة "إيلينا" المتحدية، بل بدفء السيراميك فقط، وارتعاشة خفيفة لنبضه العفوي.

لسعت القهوة لساني — مرارة رحبت بها بعد سنين من الأداء المصطنع. وبينما كنت أتجرعها، سرى الدفء ببطء نحو نحري، فلم يعد تجويفًا مرسومًا بدقة الفنان، بل مجرد حرارة تنتقل بين أنسجة سليمة. خارج النافذة، كانت عربات القطار تئن في مساراتها الصباحية بأنين ثقيل، ولم تعد أصواتها نغمة مصاحبة لانحلال عرى عشرتنا، بل نفسًا عاديًا لجسد المدينة النابض. وضعت الكوب بجوار التفاحة التي أحاط بقشرتها المجعدة هالة من أثر الفحم، وامتد الأثر كالظل، فمحا الحدود بين الجرح والفن، بين ما أهلكناه بأيدينا وما يمكن أن نشكله في المستقبل.

في الصمت الذي أعقب ذلك، أمسكت عود الفحم لآخر مرة. ليس لأترك أثرًا على بشرتي أو على سيناريوهات نصوصه، بل لأرسم ملامح ذلك الصباح — القهوة المرة، وضوء الفاكهة العليلة، ويديه اللتين توقفتا عن صنع الأوهام، واكتفتا بحفظ مسافة بيننا. تذبذب الخط قليلاً ثم استقر. في مكان ما، لا تزال رسالة إيلينا المغلقة تثقل كاهلي، لكن حقيقتها لم تعد بحاجة إلى تفسير — بل إلى تجربة معاشة فحسب. حين رفعت بصري، لم تكشف المرآة عن ذات متشظية، بل امرأة تتذوق ملح دموع لم تذرفها، وانعكاسها لم يعد متأخرًا، بل متسقًا مع نظرتها في انسجام هادئ.

امتد الصباح بيننا بلا سيناريو نص مكتوب. أصدر كوب قهوته رنينًا خفيفًا على سطح المنضدة — لم يعد جزءًا من مشهد مصطنع، بل شاهدًا على لحظة حقيقية. وضعت راحة يدي على المرآة، أحس من خلال الزجاج باهتزاز القطارات البعيدة وهي تدور في خطوطها الحديدية. كشف الانعكاس عن امرأة ليس في نحرها تجويفًا سوى تجويفها، ولم يحبس فمها إلا صمتًا أصيلًا الآن: ليس سيفًا، وليس جسرًا، بل السكون حيث يمكننا أن نلتقي أخيرًا. ليس كل سكوت استسلامًا — هذا الصمت، في النهاية، كان دعوة. خلفي، صدر صوت خفيف عندما قام عن الكرسي. لم ألتفت، لم يحن الوقت بعد، تركت الضوء يغطينا بلطافته الهشة - التفاحة الملطخة بأثر الفحم، وبخار القهوة الباقي، وذرات الذهب المستقرة في شقوق الأرضية كآثار جسر أحرقناه ثم أعدنا بناءه بتوازن. انتظار. ليس لرفع الستارة، بل لتجمع الشجاعة الهادئة للعبور.

***

عبدالله الزعبي

 

في نصوص اليوم