نصوص أدبية
علي فضيل العربي: ديك الحي

ماذا جرى لديك الحيّ يا ترى؟ فجأة، ودون مقدمات، انقطع صياحه. لم يعد يوقظنا عند الفجر كعادته، أم أنّه أزعج الجيران بصياحه، عند الفجر والظهر والعصر. كما تقول لالة ورديّة، صاحبة الديك ومربيّته؟
فقس في خمّ بيتها. خرج من البيضة بحجم الإبهام. تدرّج رويدا رويدا، حتى كبر، نبتت له قبعة وريش أرجوانيّ منفوش وجناحان، وسلطة على دجاجات الحيّ، وأشباه الديكة. ديك الحي من سلالة حرّة. قويّ العظم. ابن البلد. شهم. حر. ورث الإباء عن أجداده. خرج من تحت حضن أمه ليس كالديكة التي تفقس في علب كأطفال الأنابيب. لٌقٍّب بديك الحي. واختفت كل الديكة في أرجاء الحي. كأنّها فقدت صياحها. لا صياح سوى صياحه. لا سلطة إلاّ سلطته.
تربى ديك الحي في خمّ لالة وردية. رعته مذ كان في قلب البيضة محّا وأحّا. هو من سلالة محليّة أصيلة. أطعمته أمّه من قمح وشعير البلدة. وكانت لالة ورديّة تباهي به جيرانها، وتمنّي النفس، بأن يعيش زمنا طويلا. وكم قيل لها: بيعيه في السوق الأسبوعي، واشتري بثمنه قطعة قماش خضراء اللون، لتبيّضي بها وجهك أمام زوا ر المقام الزكيّ للوليّ الصالح سيدي معمر بومكحلة، يوم الوعدة. لكنّ، رفضت، وصرخت قائلة:
- أبيع خلخالي، ولا أبيع ديكي.
يبدو أن القدر أدار ظهره لأمنيتها. وأصابها في مقتل. وفي قرّة عينها فجأة.. وما حيّر لالة ورديّة وأرّقها، وأفرغ في قلبها أكوابا من الهمّ والقلق، هو كيف اختفى الديك الأنيق فجأة؟ كان قبل اختفائه في صحة الأسد. لم تظهر عليه علامات قلق أو مرض أو كآبة. كان مساء اختفائه سعيدا، وهو يقفز فوق دجاجات الحيّ، يتبختر كالملك في مملكته، والأمير في إمارته. يقف أمام أشباه الديكة مختالا، مرفوع الهامة، يرمقهم بعيني الصقر، فتفر من أمامه، ومن خلفه. لا يجرؤ أحد منهم على تحدي نظراته، وحركات جناحيه. فكل الدجاجات حرث له. وهو لباس لهنّ، وهنّ له ثياب في كل فصل.
تغزو التكهنات والهواجس المرة جوانحها. تردد، متمنيّة ألا تكون صادقة:
- هل ألّمت به أزمة قلبية، فأزهقت روحه فجأة؟ أم غدر به ابن آوى في غفلة من أمره؟ أم اختطفه لصوص الدجاج بعد انتصاف الليل، وباعوه في سوق بلدة مجاورة بربع ثمن ديك غبي ّ، هرم، منتوف الريش والذيل؟
لم يحدث أن غاب ديك الحي كل هذه الأيام الثلاثة، منذ استلم، بل استولى على سلطة الدجاج. لقد فرض نفسه ومنطقه وسياسته. ألغى العقد القديم في جمهورية الدجاج، بحجة تخلفه، وعدم تماشيه مع نظام العولمة. وفرض عقدا جديدا تقدميّا. وكتب في مادته الأولى:
- المجد والخلود لي.
ولمّا احتجّ بعض أشباه الديكة، الذين ظنّوا في لحظة أنّهم ديكة حقيقيّون، أو أرادوا أن يصبحوا كذلك، وخرجوا، ذات صباح، إلى الشارع في مسيرة حاشدة، رافعين لافتات الرفض لتلك المادة، صارخين:
- الدجاج يريد إسقاط النظام. ارحل أيّها الديك..
أعدمهم ديك الحي، ورماهم لقيمات سائغة للقطط الجائعة.
لم يكن ديك الحي رحيما بمعارضيه. فهو يعلم أنّهم يعارضون من أجل المعارضة فقط. ومن أجل الظهور على شاشات التلفاز، وفي المعلقات على واجهات المحلات والساحات. هم كائنات دجاجية وديكية، تحترف الفوضى، وتبيع في سوق الأحلام سرابا. وهم أشبه بفطريات الكهوف، عندما تتشبّع بالرطوبة. هم مثل طحالب البحر، حين ترميها الأمواج على حافة الشاطيء الصخري.
ومن يومها، اطمأنّ ديك الحي. تخلّص من مغص المعارضة، التي صدّعت رأسه، وشوشت عليه راحته، وقيلولته. وكادت أن تنقل لدجاجاته وباء العصيان أو التمرد.
والحق أن لالة ورديّة هي سبب استبداد الديك وديكتاتوريته التي لامست حدود الفاشية أحيانا. فقد ربته منذ كان كتكوتا على أن يكون هو الأول دائما في كل شيء. لا أحد يصيح قبله، وإن تأخّر صياحه لظرف ما، كأن يغلبه النعاس بعد سهرة حمراء مع دجاجة عذراء. لا أحد ينقب الحب قبله. وكل الدجاجات يؤدين له الحب والولاء والطاعة. أما أشباه الديكة، فما عليهم سوى الرضا والتصفيق بالأجنحة، والقفز طربا له. كما علّمته لالة ورديّة حب الذات إلى درجة النرجسية. حيث صار يُرى - قبل اشتداد عوده - بعد آذان العصر، وعند الأصيل، يمدح نفسه. يجمع حول بعض الكتاكيت، ويأمرهم بالرقص حوله، وهو جالس وسط الدائرة، كشهريار، وقد استمرت معه هذه العادة أياما وشهورا، حتى أصبحت طقسا من طقوسه المفضّلة. كما ورثته أيضا المشي باختيال كمشي الأسد بين الظباء.
-2-
من ذا الذي سيصيح بعده في الحي؟ صحيح، أنّه ديكتاتوري، نرجسيّ، سلب من دجاجات الحي، وأشباه الديكة، حريتهم. حرمهم من حريّة التعبير والتفكير. حوّلهم إلى مجرد كائنات تدب على رجلين، ولها مناقير منتهية الصلاحية. لكنّه فرض النظام في الخمّ وخارجه. لولاه لعمّت الفوضى بين معشر دجاج الحي.
ديك لالة ورديّة ليس له بديل، ولا مثيل. أحيانا يجود الدهر بدرّة في كل مائة سنة. فمن الصعب على لالة ورديّة تحمّل وقع هذه المصيبة، التي ألّمت بها على حين غرّة. كيف اختفى في لمح البصر، كنيزك هوى في البحر. وفي ليلة مقمرة. وهو الذي كان لا يشكو من شيء، ينغّص عليه يومياته المرصعة بالمرح والسعادة. تأتيه لالة ورديّة بحفنات القمح والشعير. تغيّر ماءه في كل صباح، بعدما تنظّف الإناء بالماء والصابون. تكنس الخمّ في كل مساء، فلا تغادره إلا وهو خال من أدنى شائبة.
وجاءت العمة لالة خيرة، وقد لفت سمعها غياب صيحات ديك الحي، تسأل عن السبب. قالت متعجبة:
- ماذا جرى للديك، يا لالة وردية؟ منذ ثلاثة أيام لم نسمع له صياحا.
- لا أدري ماذا حدث له – كذلك ردّت لالة ورديّة بنبرة حائرة – انتظرت ظهوره منذ انقطاع صياحه، ثم سألت عنه الجيران، وبحثت عنه في كل الضواحي، لكنني لم أعثر له على ريشة، كأن الأرض انشقت وابتلعته، يا سبحان الله.
- ظننت أنّك ذبحتِه أو بِعتِه. جئت عاقدة النيّة والعزم على لومك ومخاصمتك على فعلتك.
- معاذ الله من ذلك. أبيع نفسي أو أذبح معصمي، ولا أقدم على التفريط فيه.
- لقد افتقنا صياحه يا لالة ورديّة.
- أما أنا فقد افتقت النوم، وطعم الحياة.
-3-
بدا الحي كأنّه مهجور من قاطنيه. أما الدجاجات فقد أصابتهنّ الكآبة. إلا أنّ أشباه الديكة شعروا بالغبطة والحريّة. استأسدوا على الدجاجات. وصاروا يقفزون على ظهورهن طول النهار، يجرون وراءهن الساعات تلو الساعات. ينزعون من مناقرهنّ الحب عنوة. ويركبونّ على ظهورهنّ دون عشق أو حب. عمت في الخم الفوضى. لم تعد لالة ورديّة تلتفت إليه، ولو بنظرة عاجلة. ذهب الذي كان يوقظها والجيران قبل بزوغ الفجر. ومازالت ترجو الله، وتدعوه في صلواتها، أن يعود ديك الحي من غيبته سالما، غانما، معافى من كل أذى.
تقول لالة ورديّة:
- لم يسبق لديك الحي، أن اختفى عن الأنظار والأسماع كل هذه المدة. ثلاثة أيام عند لالة ورديّة مقدارها سنة أو تزيد. كان من عادته في فصلي الصيف والربيع أن يغيب عن الحي صبيحة أو أمسية. أحيانا، وعندما ينشر الربيع بهاءه، ويُلبس الأرض حلّة خضراء كالزمرد، يخرج رفقة دجاجة فائقة الجمال، كي يمارس طقوس الحب العذري في أحضان النسائم الطريّة كالماء المنساب بين الخمائل. وتارة، عندما يحط الصيف رحاله، وينصب خيامه، ويدق أوتادها. يصطحب الدجاجات ذات الكتاكيت إلى حقول القمح القريبة، بعد حصادها، ويدربها على كيفية التقاط الحب، والحذر من الصقور والنسور السمراء. لكنّه يعود قبل انتصاف النهار، أو حلول الأصيل.
وتقول لالة وردية:
- أنّ ديك الحيّ، لا يخفى على أحد من أهل الحيّ. فقد صار صياحه مميّزا، ومسموعا من الضواحي القريبة. وصار يُعرف بـ(ديك لالة ورديّة). وكم من مرة سعىت إليها العجائز- الخبيرات في عالم الديكة الأصيلة – تبتغي منها إعارته يوما أو بعض يوم لدجاجاتهنّ. لكنّهنّ كنّ يصطدمن برفضها القاطع، خوفا عليه من أعين الحساد.
كانت تقول لهنّ:
- هاتوا بدجاجاتكنّ، يسرحن يوما أو بعض يوم رفقته.
- ألا يثير ذلك فتنة الغيرة لدى دجاجات الحي؟
- بلى. لكن سنحجزهنّ في الخمّ؟
وحدث ما لم يكن في الحسبان. ففي غفلة من لالة ورديّة، وأثناء تقديم الحب للدجاجات (المعتقلات) في الخم. نسيت أن تحكم غلق الباب. دفعته بعض الدجاجات دفعة واحدة وبقوة. وخرجن مطلقات سيقانهنّ للريح. وكانت المعركة الداميّة بينها وبين الدجاجات المجلوبة من الضواحي، لأجل التلقيح. وبدأت النقنقة وانفتحت الأجنحة والأظافر وهاجت المناقير. ولأول مرّة عجز ديك الحي عن فرض الانضباط، وحسم الموقف. كانت دجاجات الحي في هيجان عارم. عيونهنّ تقطر لوما أحمر. اتّهمنه بالخيانة، وكنّ يرددن:
- يا خائن الملح والعشرة.
حاول ديك الحي شرح حيثيات الموقف. فالأمر لا يعدو – في نظره - كونه خدمة إنسانيّة عابرة. لا تسمو إلى درجة الخيانة. فهو لم يخن أبناء الحي. ولم يفش أسرار قومه للأعداء، ولم يكن حركيا في صفوف الغزاة. ولم يفرّط في شبر من تراب الحيّ. وكان بإمكانه أن يذهب- وفي غفلة منهنّ – إلى دجاجات الضواحي، ويقضي في أحضانهنّ يوما أو بعضه، ويعود سالما، غانما. لكنّه – كما يقول – رفض، وعند لالة ورديّة الخبر اليقين.
لم تسلم دجاجات الضواحي من الرفس والنقب والنتف. عدن إلى أهاليهنّ مكلومات الجسد والروح. نادمات على رحلتهنّ المشؤومة. ناقمات على تلك العجائز الهرمات اللائي فقدن أحاسيس الغيرة وتقدير العواقب الناجمة عنها. واتفقت على تهشيم البيض فور إلقائه، لحرمان تلك العجائز منه. ورفضن حضنه. حتى تُسترد كرامتهن، ويعاد لهنّ الاعتبار بين دجاجات الضواحي، ودجاجات لالة ورديّة. لقد أُهدرت كرامتهنّ، ونلن من الإهانة ما لا يتحمّله ظهرجبل أرعن الذؤابة. واحتدم الخلاف بين العجائز ودجاجاتهنّ، حتى وصل بهم المطاف إلى محكمة بشريّة محايدة، التي قضت بأن الأمر لا يستدعي سوى المصالحة بالتراضي. لأنّ نيّات العجائز كانت حسنة. وإنّما الأعمال بالنيّات. ولم يقصدن أبدا إلحاق الضرر بالدجاجات. وعليه، تقوم العجائز باسترضاء دجاجاتهنّ، نزولا عند رغبتهنّ، بما يلي:
- زيادة كميات الأكل اليومي. وإعادة تجديد أرضية الخم وسقفه وطلاء جوانبه. وجلب اعتذار مكتوب من لالة ورديّة نيابة عن دجاجاتها المعتديّات.
ربّما كانت هذه الخطوة، هي القشة التي قصمت ظهر البعير، أو القطرة التي أفاضت الكأس. لقد رأى ديك الحي في تلك المصالحة هدرا لكرامته، وتفريطا في مكانة الحي.
قال بتهكم ومرارة:
- لم يكن الأمر يستدعي اللجوء إلى محكمة بشريّة، ولو كانت محايدة.
ولمّا سُئل عن العيب في ذلك، قال:
- ما دخل البشر في شؤوننا. ليتهم يقيمون العدل بينهم. إنّهم يفكّرون بالمنطق المادي فقط.
قالت لالة ورديّة:
- لولا لطف الله بخلقه، لحدثت مجزرة رهيبة.
- كنّا نبغي من وراء ذلك خيرا. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
كذلك أردفت قائلة.
و بدا للالة ورديّة أنّ اختفاء ديك الحي عائد – وهذا شبه مؤكد – إلى استبعاده من عملية الصلح. رغم أنّه ضلع رئيسي في المعركة الناشبة بين دجاج الحي ودجاج الضواحي. لقد حاول فك الاشتباك بين الطرفين دون انحياز لطرف على حساب طرف. لكنّه لم يفلح في ذلك. فقد كانت دجاجات الحي عازمة على الانتقام لشرفهنّ. كانت إحداهنّ تردد:
- لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم.
ولأول مرة، منذ خرج من بيضة أمّه، شعر بالعجز والفشل والهزيمة في معركة الحياة. بل ورمق في عيون دجاجات الحيّ غيظا ورعونة وإصرارا على الأذى، وتمردا على أوامره، وعتابا بلون الوعيد. أحس أنّ هيبته قد غاصت في الوحل. انتهى فيه ذلك الديك، الذي إذا انتصب وتمطى وصاح فجرا أو ضحى أو ظهيرة أو عصرا، وقفت له دجاجات الحيّ، وقفة الجنديّ للضابط الحازم تحيّة وإجلالا.
كان يمكن أن يختفي بأسلوب أكثر تحضرا وديمقراطيّة؛ وذلك بدعوة دجاجات الحيّ إلى اجتماع رسميّ، وإعلان استقالته، والدعودة إلى انتخابات مسبقة، وتكريس مادة في دستور جمهوريّة الدجاج، تُلزم الجميع على احترام مباديء التداول على السلطة. ويكون الجميع تحت السلطة القضائية، مهما كان المنصب. ولكنّ كل هذا استبعد. لأنّ سيادة الديك المحترم، لا يؤمن - أصلا- بمبدأ التداول على السلطة، فهو إما مقتول غدرا. أم مطاح به في انقلاب عسكريّ، أو خالد إلى أن يأتيه اليقين.
و حتى إن نظّم انتخابات (ديمقراطيّة ونزيهة)، فهي صوريّة فقط، ومن أجل الظهور بلباس ديمقراطيّ، على جسد ملك جبّار. إنّه يؤمن بنظريّة الحكم الشامل والجذريّ؛ وملخّصها، أنّه، إذا تمردت دجاجات الحيّ عليه، غيّرهنّ، وأتى بدجاجات جديدة. أما هو فثابت ثابت ثابت، إلى يتولّى أمره ملك الموت. كما قيل - والعهدة على راديو الأرصفة – أنّه فكّر في إضافة مادة إلى الدستور، تجبر الدجاجات وأشباه الديكة، بأن يشيّدوا له بعد مماته - إن مات طبعا – تمثالا من ذهب في قلب الحيّ، كي تُؤدى له طقوس الولاءات والطاعات والزيارات.
عجيب، أمر ديك الحيّ. كيف اختفي، وفي يده كل هذا الجبروت وهذه السلطات؟
(تمت)
***
بقلم الكاتب الروائي: علي فضيل العربي – الجزائر