نصوص أدبية

سعد غلام: الرَّمادُ والرُّمّانُ

يَا أَنْتَ،

كَمْ بَقِيَ مِنْ صَدَاكَ فِي أَذَنِ الحَنِينِ؟

كَمْ مِنْ رُؤَاكَ تَكَسَّرَ فِي زُجَاجِ الغِيَابِ؟

أَنَا الَّذِي يَكْتُبُكَ مَاءً،

وَيَقْرَؤُكَ نَارًا

2

مَا بَيْنَ نَبْضَيْنِ،

أَغْسِلُ خُطَايَ بِحَبْرِكَ،

وَأَتْرُكُ لِلدَّمْعِ نَافِذَةً تَسْقُطُ فِيهَا اللُّغَةُ

3

أُرَتِّبُ فِي عُيُونِكَ لَيْلِي،

وَأُخَبِّئُ ضَوْءَكَ تَحْتَ جِلْدِي،

لِئَلَّا يَفْنَى المَكَانُ.

أُقَلِّبُ الرَّمَادَ،

فَتَنْبُتُ مِنْهُ حَبَّاتُ رُمَّانٍ

4

أَدْخُلُ غَيمَكَ وَحيدًا،

تَسْتَفِيقُ بِيَ الفُصُولُ كَأَنَّها وَرَقٌ فِي مَاءِ الخُطَى.

أَمْشِي وَالنَّارُ تَلْمَعُ فِي حَجَرِ الأَنْفَاسِ،

أَبْحَثُ عَنْ صَوْتٍ كَانَ يَنْقُرُ صَدْرَ اللَّيْلِ كَالرَّحِيلِ

5

كُنْتَ لِي وَطَنًا مِنْ خَفَقٍ،

وَأَصْبَحْتَ صُورَةَ مَاءٍ تُشْبِهُ الحُلْمَ،

تَنْفُضُ مِنْ نَفْسِهَا نُدُوبَ المَوَاسِمِ،

وَتَكْتُبُ عَلَى جِلْدِ الرَّمْلِ أُغْنِيَةَ التَّبَدُّدِ

6

أُرَتِّبُ فِي ظِلِّي نَبْضَكَ،

وَأُعَلِّقُ عَلَى جِدَارِ المَسَاءِ مَسَافَاتٍ مِنْ نَدَمٍ،

لِأَتَعَلَّمَ كَيْفَ يُصَلِّي الرَّمَادُ

7

مَا الَّذِي فِي صَمْتِكَ يُشْبِهُنِي؟

أَسْتَمِعُ لِحِرْفٍ يَنْزِفُ فِي المَدَى،

وَيَتَدَثَّرُ بِأَسْمَائِي القَدِيمَةِ.

أَسْأَلُ: هَلْ يَسْمَعُ النُّورُ خُطَايَ وَهُوَ يَتَعَثَّرُ فِي الطِّينِ؟

8

كَأَنَّ الغِيَابَ الَّذِي فِيكَ نَهْرٌ،

تَصُبُّ حَوَافِيهِ فِي جَسَدِي،

وَيَغْسِلُ وَجْهِيَ مِنْ وَحْلِ أَيَّامِنَا،

وَيُعَلِّمُنِي كَيْفَ أُصْغِي إِلَى صَمْتِكَ النَّازِفِ الآنَ،

كَيْ أَفْهَمَ المَاءَ حِينَ يَبُوحُ بِلَوْنِ الرَّمَادِ

9

أَنَامُ عَلَى رِيشِ جُرْحِكَ،

أَسْتَعِيرُ مِنَ الرِّيحِ نَبْضَكَ،

وَأَغْزِلُ مِنْ عَرَقِ المَسَاءِ قَمِيصًا لِيَوْمِي،

فَأَصْحُو عَلَى كَفِّ نَارٍ،

تُسَمِّينِي بِمَا لَا أُطِيقُ

10

فِي عَيْنَيْكَ وَرْدٌ يَنَامُ عَلَى جَنَاحِ الحَرِيقِ،

وَيُوقِظُ فِيَّ رَغْبَةَ البَحْرِ،

أَنْ أَسْقُطَ أَكْثَرَ فِي المَوْجِ،

وَأُولَدَ مِنْ جِسْرِ ضَوْئِكَ طِفْلًا

11

كُنْتَ فِي الأُفُقِ شَمْسًا تُفَاجِئُ طِينِي،

وَتُوقِظُ فِي صَمْتِيَ الغَيْمَ،

وَفِي عَرَقِيَ النَّبْتَ،

حَتَّى صِرْتُ أُغَنِّي ظِلِّي

12

مَتَى تَرْجِعُ الأَغَانِي الَّتِي ضَيَّعَتْهَا النُّدُوبُ؟

وَيَرْجِعُ الحُلْمُ مِنْ فَوْضَى الوَجَعِ،

وَيُصْلِحُ كَسْرَ المَرَايَا؟

13

أَمْضَغُ أَسْمَاءَنَا القَدِيمَةَ،

كَمَا يُمْضَغُ التَّمْرُ فِي مَوَاسِمِ الجُوعِ،

وَأَبْكِي إِذَا مَا تَسَرَّبَ مِنِّي الرَّمَادُ

14

فِيكَ أَسْكُنُ وَأَنْسَى المَدَى،

أَسْكُنُ وَجْهَ الحُرُوفِ،

وَأَتَسَلَّقُ نَبْضَ اللُّغَةِ،

حَتَّى يُصْبِحَ الكَلَامُ بُخَارًا

15

أَنْتَ حِينَ تَصْمُتُ،

تَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي يَتَجَسَّدُ فِي نَفْسِ الصَّدَى،

وَتَكُونُ الْمَوْتَ الَّذِي يَتَعَلَّمُ كَيْفَ يُحِبُّ

16

فِي زَمَنِ الْعَطَشِ،

أَشْرَبُ مِنْ عَيْنِكَ صَبْرَ الْمَلَائِكَةِ،

وَأَكْتُبُ فِي الظِّلِّ أَسْمَاءَ مَنْ لَمْ يُولَدُوا بَعْدُ

17

يَا ابْنَةَ الرَّمَادِ،

يَا مَنْ تَسْكُنِينَ فِي وَهَجِ النَّارِ،

أُسَمِّي الغِيَابَ قُبْلَةً،

وَأَمْشِي عَلَى سُرُوجِ الغَيْمِ،

وَأَحْمِلُ نَفْسِي إِلَى مَهَبِّ النُّورِ الأَعْمَى

18

أَرَى فِي خُطَاكِ حُرُوفًا تُصَلِّي،

وَفِي نَبْضِكِ مِئْذَنَةً تُنَادِي لِلرَّمَادِ،

فَأَسْقُطُ فِي المَاءِ كَمَنْ يَعُودُ مِنَ الغُفْرَانِ

19

أَضَعُ قَلْبِي عَلَى الطِّينِ،

فَيَنْبُتُ فِيهِ بَابٌ مِنَ الحُلْمِ،

يَفْتَحُهُ لَيْلٌ يَتَنَفَّسُ بِنَارِكَ

20

يَا زَمَنَ الْحُرُوفِ الْمَحْرُوقَةِ،

هَلْ بَقِيَ فِي الصَّفْحَةِ مَاءٌ لِكِتَابَتِنَا؟

هَلْ بَقِيَ فِي الْحُلْمِ مَتَّسَعٌ لِلنُّورِ؟

21

مَدِينَتُنَا تَنْهَضُ مِنْ تَحْتِ الرَّمَادِ،

تَرْتَدِي جَسَدَهَا مِنْ نُورٍ وَخُوفٍ،

وَتُسَمِّي الشُّهُودَ أَبْجَدِيَّةَ الدَّمِ

22

أَضَعُ نَفْسِي فِي وَرَقِ الْعُمْرِ،

أُسَمِّي النِّهَايَةَ بَدَايَةً،

وَأَخْتِمُ الرُّمَّانَ بِرَمَادٍ،

لِكَيْ تَبْدَأَ الْحِكَايَةُ مِنْ نُقْطَةِ النَّارِ

23

كودا

الرَّمَادُ…

مِسْكُ الحُرُوفِ بَعْدَ احْتِرَاقِهَا،

وَالرُّمَّانُ…

قَلْبُ المَاءِ حِينَ يَنْزِفُ جَمَالًا

فِيهِمَا تَلْتَقِي الأَضْدَادُ،

وَيَبْدَأُ الوُجُودُ مِنْ لَهِيبِ اللَّذَّةِ وَخُشُوعِ الفَنَاءِ.

***

د. سعد محمد مهدي غلام

في نصوص اليوم