نصوص أدبية
ناجي ظاهر: النصراوي الصالح
هو واحدٌ مِنَ الرجال الافاضل الذين تعرّفت إليهم في لحظة قاتمة مُعتمة، فأناروا، لم يكن شخصية معروفة لدى الجميع، لا رئيس بلدية ولا مدير مؤسسة تُقدّم خدماتها الكريمة لى ناشدي مكرماتها، وإنما كان عاملًا اجتماعًيا ناشطًا في مكاتب الخدمات الاجتماعية في مدينتنا الحبيبة المشتركة.. الناصرة، يُقدّم خدماته بمهنية عالية رفيعة، مُرفقًا إياها بابتسامة جزلة كريمة، وكلمات طيبة، تدُّل على خلق كريم وأصالة مُحتدّ، ومعرفة مُتعمّقة بالنفس البشرية قبل هذا وبعده.
تعرّفت إلى الفقيد رمزي لطفي نصّار (1958/ الاثنين 4-11-2024)، قبل أكثر مِن عَقدين من الزمان، وكان ذلك عندما قدّمني إليه صديق آخر مِن فُضلاء مدينتنا، هو الصديق الراحل أيضا موسى خبيص.. تعطرت ذكراه. منذ اللحظة الأولى لتعارفنا ذاك شعرت بأنني عثرت على صديق، مُساند ومُعاضد، وأن تلك اللحظة ستشهد ما بعدها.. كونها كانت لحظة فريدة كما اخبرني قلبي. وأذكر يومها أنني أردت أن اطمئن قلبي على مشاعري تلك، فأخبرته أنني أعرف العديدين من الفضلاء من أبناء عائلته المكينة، أمثال الراحلين سمعان نصار، سهيل نصار وعزمي نصار، وما إن ذكرت هؤلاء حتى قاطعني بابتسامة دافئة قائلًا: الجميع يعرف هؤلاء وأنا اعتز بهم وبانتمائي إليهم وإلى هاته المدينة الكريمة المعطاء. أسعدني ما قاله، فاسترقت النظر إلى عينيه فرأيت فيهما لمعة أنس رانية واعدة.. قالت لي إنني ماض على خطى هؤلاء. وهذا ما أكدته الفترات التالية لعلاقتي به، فقد كان يؤكد لي، لقاءً إثر لقاء وجلسةً بعد سابقتها، أن انسانيته حضرت وآثرت الإقامة المُبشّرة في كلّ ما كان يقوم به مِن أفعال، سواء كان ذلك في المساحة الخاصة لعمله عاملًا اجتماعًيا أم في المساحة العامة لوجوده واحدًا مِن أبناء مدينة البشارة الغراء.
في كلّ لقاء لي به، سواء كان في مكان عام أو خاص، كنتُ أتأكد مِن ذلك الانطباع الأول عنه وعن شخصيته، ذلك أن كلّ لقاء يؤكد لي أنه إنسان إيجابي، مُحبٌّ لأهله وناسه وأهل مدينته، بل وعالمه الواسع، وأذكر في هذا السياق أنني كثيرًا ما كنتُ اطرق باب مكتبه، فينفتح لي بكلّ أريحيّة، رقة ولطف، مُرحّبًا مُهلّلا، وداعيًا إياي للدخول لنتبادل الأحاديث الحافلة بالمودة والحادبة على كلّ ما هو جميل ولطيف في الحياة. ولا أذكر أنّه اعتذر وتذمر، أو ادعى بالعمل والانشغالات الكثيرة، وهكذا كان بابه مفتوحًا ومُرحّبًا دائم الترحيب. أما في المرّات القليلة التي بقي بابُه موصدًا، فقد كنت أعرف مِن زملاء وموظفين آخرين له، أنه يخفي وراءه مُشكلة يسعى الفقيد لحلّها باحثًا مع أصحابها عن الحلول المُناسبة لها. وقد رأيت في قليل من الأحيان تلك الوجوه تخرج من غرفته مُبتسمة ومُزيلة عنها ما الحقته بها الأيام من آلام وأوجاع.
هذه النفس الطيّبة الكريمة، وطّدت العلاقة بالراحل الكريم، ولعلّ أطرف ما فيها أنها اتصفت بالندية والاحترام المُتبادل، وهكذا مثلما كنت أفخر به وبإنسانيته الفيّاضة، كان هو يفعل، وقد قدّمني إلى آخرين، في أكثر مِن موقف، على اعتبار أنني واحدٌ من الناس الذين غلبتهم انسانيتهم، ففاضوا على كلّ مَن أحاط بهم مِن مُعذّبي الأرض وأبناء السبيل، بكلّ ما حفلت به قلوبُهم مِن مَودّة، عطف وإنسانية.. حينها عادة ما كنت أرسل نظرة حانية إليه وكأنني أريد أن أشعره وأوحي إليه بما مُفادُه: أنت تتحدّث عني أم عنك؟
مما أتذكّره عن فقدينا الغالي، أنه كان ثاقب النظر، عارفًا لكلّ ما يدور حوله، مؤمنًا بإنسانيته السخيّة المُتدفقة عطاءً وجودًا، ولا أذكر أنني وجّهت إليه طالبَ مُساعدةٍ، إلا وعاد إليّ شاكرًا عارفًا لفضله، في كلّ ما قدّمه إليه مِن أيادي بيضاء، سواء بالقول الذهبي، أو بالفعل الماسي. وقد كان سريع التفاعل فهو لا يؤجل ويسوّف وإنما يُبادر مِن فوره إلى التحرّك والعمل، وتقديم كلّ ما توفّر لديه من معرفة، تجربة ومهنية، وطالما خفّفنا معًا مِن آلام واوجاع مُحيطين بنا مِن أبناء جلدتنا وإنسانيتنا.
لهذا كلّه وتبعًا له، سارع الكثيرون، حين انتشار نباء رحيله المُفزع، إلى الاعتراف بفضله ومبادراته السخية، سواء في تقديمه خدماته الكريمة، أو بمبادراته لتقديم كلّ ما بإمكانه تقديمه دون تذمّر أو تراخٍ. وقد سرّتني إشارة وردت في نعي إخوة لنا في حي الفاخورة، وقعها الأخ المحترم محمد الحلو، تقول إن الفقيد كان مِن أوائل العمّال الاجتماعيين الذين دخلوا إلى ذلك الحي، وبادروا لإقامة نادي المسنين فيه.
رحم الله الفقيد، فقد كان شخصية اجتماعية، تجاوزت حدود اسرتها الصغيرة، لتمتدّ على مساحات واسعة في حيوات اسرتها الكبيرة، اسرتها الإنسانية، لذا كانت الخسارة بها كبيرة وكبيرة جدًا، وتجاوزت حدودها العائلية المعروفة، لتمتدّ إلى آخرين، لا سيّما مِن أولئك الذين أنار لهم الطريق وجعل مِن كلّ مكان حلّ فيه مكانًا رائعًا ويطيب العيش فيه.
***
ناجي ظاهر






