آراء

عبد الأمير الركابي: الرؤية الكونية العراقية ما بعد الابراهيمة (2)

يختصر العقل القاصر اليدوي الانقلاب الالي بالانتقال المادي ـ وسيلة الانتاج ـ واثرها ومايترتب عليها من متغيرات آنيه، من دون اخذ الجانب العقلي وموقعه المفترض الذي لاكمال للعملية الحاصلة من دونه، ضمن الانقلاب النوعي المجتمعي، والامر هنا عائد الى القصورية التاريخيه، ولهيمنة الجسدية واعتقادها الراسخ بوحدة الكائن البشري البنيوية التكوينيه، اي بمصادرة العقل من قبل الجسد باعتباره عضوا من اعضائه، ومع ان المنجز العقلي المواكب والذي حركته القفزة الاليه كان غير عادي مقارنة بماقبله، الا انه ظل دون القدرة على تجاوز القصورية العقلية اليدوية، تحديدا بما خص العقل ومكانه ودوره ضمن العملية النشوئية التاريخيه، وموقعه الاساس بذاته ضمن مسار التحولية البشرية، واشتراطات فعاليته التاريخيه، بما هو غرضية وغاية الوجود العليا.

 ومع ضخامة المنجز الاوربي ضمن الاشتراطات الانتقالية الالية الاولية، الاان ماقد تحقق في حينه والى الساعة، ظل مادون منطوى الانقلابيه الاليه ومنتهياتها بماهي انقلابيه تحولية عقلية مابعد جسدية، واعلى اشكالها الطبقية، فضلا عن تحوليتها الارضوية الماركسية، او نشوئيتها الترقويه الدارونيه الجسدوية المحكومه للجسد وترقية، علما بانه الحامل المؤقت الانتقالي للعقل، وان العملية النشوئية الارتقائية هي عملة "عقلية"، محورها الترقي العقلي منطلقا، العقل ضمنها محكوم ابتداء للغلبة الجسدية المطلقة، ابان الطور الحيواني على مدى مئات ملايين السنين، وصولا للحظة الانبثاق مع وقوف الحيوان على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، وهي اللحظة الاولى من التحررية الاستقلالبية العقلية عن الجسد الذي تتوقف عملية ترقيه بعد وصول العضو الجسدي قمه تطوره، مع انبثاق العقل الذي يستمر في الترقي صعدا.

 ليست الانقلابيه الالية مادية وحسب، بل عقلية بالدرجة الاولى، المادية محرك ومحفز لها، تظل جسدوية ابتداء، كما الموضع الذي تنبثق فيه اوربيا، حيث من غير الممكن الانتقال العقلي المواكب والضروري، بناء لاشتراطات المجتمعية الجسدية اليدوية، الى ان تبلغ الالة مع تحوراتها التكنولوجية، مرحلة العقلية التكنولوجية، وقت تبدا العملية الانتقالية التحولية اللازمه، والتي بموجبها وبها تكتمل عملية الانتقال الالي في الموضع "اللاارضوي" الابتداء والكينونه، والذي لم تكن الالة لتنبثق بين ظهرانيه لاختلافه النمطي العقلي، المحكوم ضمن العملية التحولية الاشمل للفعالية العقلية، بانتظار اكتمال شروط الفعالية المادية في الموضع الازدواجي الطبقي الارضوي، الاكثر ديناميه ضمن صنفه ونمطيته، وهو ماقد منع بالاصل انبثاق الاله في الموضع اللاارضوي، مادامت الالة لاتنبثق عقلية ابتداء، فلم تحدث الانقلابيه مابعد اليدوية على سبيل المثال، ابان الطور العباسي في بغداد، رغم توفر الظروف في المجالات المخلفة انتاجيا، انما من دون الاحتدامية الاصطراعية الطبقية المغلقه، ومع توفر المتنفس الفنائي المجتمعي للاصطراعية المجتمعية الازدواجية الرافدينيه، التي كانت تنهار وتنقطع ذاتيا، مع احتدام الاصطراعية كما حصل مع الدورتين، الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطيةالتي انتهت بالانتظارية كاحالة الى دورة قادمه.

 انقلاب آلي يدوي افتتاحي هو استمرارلماقبله على مستوى الوعي، لقوة وحضور وطاته المديده، مع تبدل الظروف، يسبق الانقلاب العقلي الهدف والغاية المضمرة المنتظرة في العملية الانقلابيه الالية، مايعود الى المجتمعية اللاارضوية التاريخيه المتلائمه مع العقل، العنصر الافعل والغاية في الكيانيه البشرية، وهدفها النهائي كوجود بشري محكوم للانتقال " الانساني" مابعد "الانسايواني"، لامجرد التحول من وسيله انتاج الى اخرى ارقى، او منطوية على ممكنات اعلى انتاجيا وعقليا ضمن ثبات الارضوية.

 نحن بصدد عالمين وزمنين كما سبق وحدث يوم انتقل الكائن الحي من "الصيد واللقاط" الى " التجمع + انتاج الغذاء"، اي اننا لم نعد ماكناه منذ تبلورت المجتمعية في مابين النهرين في سومر، فالمجتمعية انتهت بعدما انجزت المطلوب منها، وفقدت صلاحيتها مع انتهاء فعالية وسيلة الانتاج الجسدية اليدوية، سوى بقاء الاشكال الاعظم حاضرا مادامت الادراكيه الضرورية غائبة، فلا عقل يقارب الاحتماليه الانتاجوية فوق الجسدية، وبالذات العقلية، مع المترتبات المتوقعه على مثل هذا الانقلاب النوعي، بما في ذلك مستوى ادراكية الموضع اللاارضوي، برغم رفعته وعبقريته الكبرى المقاربة للتحولية ومغادرة الارضوية، يوم كان "الموت" هو الجسر الفاصل بين الارض والعالم الاخر، مع القدرة الخارقة للغائية الكونية العليا الاليه، التي تستطيع "تسوية بنانه"، واذن فهي اجدر بان تبعثه جسدا من الموت.

 وقتها ماكانت اللاارضوية قادرة على القول بان الكائن البشري هو ازدواج (عقل / جسد)، وان العقل قابل للتحرر والانفصال عن حامله ووسيلة ضمان ترقيه، الى اللحظة الانتقالية التحولية العظمى، وهو ماتكفلت الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نمطيتها والمنغمرة في الانقلاب الالي الافتتاحي، بوضع اطلاله مهمه باتجاهه، تمثلت في نظرية الارتقاء والنشوء مع كل مادار حولها من اخذ ورد، بغض النظر عن قصورها وجسديتها، مع انها وضعت كجوهر المدماك الضروري للانتقال العقلي، بما خص مفهوم "الخلق"، باعتباره قانونا تفاعليا شاملا للكون، ودينامياته المحكومة للتحولية الكبرى، لا للتابيدية والبقائية الازلية التي كانت وظلت لابل وماتزال مهيمنه على العقل الانسايواني، قبل ان يتحررمنطلقا نحو عالمه ومستقره الذي وجد لكي يبلغه خارج الكوكب الارضي والكون المرئي الذي هو منه، كمحطة عابرة لزوم وضرورة .

 مايقرب من ثمانيه قرون من الاصطراعية الافنائية البرانيه، حلت على اللاارضوية الازدواجية منذ سقوط بغداد 1258 وفناء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ظلت خلالها العاصمه الامبراطورية المنهارة، موقعا لتعاقب الانصبابية اليدوية الشرقية تتابعا منذ هولاكو الى العثمانيين اخر البرانيين اليدويين، قبل ان تحل الانصبابية الالية الغربيه الحديثة، منها خمسة قرون اصطراعية انبعاثية سومرية حديثة مع البرانيات، غير ناطقة، تنتهي الى محو الكيانيه بالحرب والقوة، وبمنع الكيانيه حتى التشبهية التي كان الانكليز قد وضعوها ابان احتلالهم لهذا المكان كصيغة افنائية نموذجية، مكفوله بكل اشتراطات البرانيه، من حضور استعماري، وماعرف وقتها بالدولة المتشبهه بالنموذج الغربي، خارج النصاب المجتمعي والتشكلية الذاتيه الانبعاثية الحديثة السارية منذ القرن السادس عشر، وبما يضادها، لنصل اليوم الى المنع المباشر للحضورالذاتي باي شكل وصيغة، بالتدخل المباشر بعد التدمير الاحترابي، ليبلغ مسار الافنائية الالية المستمر خلال مايزيد على القرن المنصرم، حدودا متعدية لكل ممكن وجودي بظل انتهاء الفعالية الغربية ونموذجها الكيانوي، وحلول طور انتهاء صلاحية الارضوية على مستوى وسيلة الانتاج التكنولوجي، والنموذج المتزعم (كيانيه الفكرة) القائد غربيا بعد تسيد الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي الامريكية، في حين يدخل العالم ككل طور الاقتراب من الفنائية الشاملة.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم