آراء
محمد السليطي: مخاوف المؤسسة الدينية بين إيمان الناس وطاعتهم

ما الذي تخشاه المؤسسة الدينية فعلا؟ فقدان الدين أم خسارة الأتباع؟
لطالما شكّلت المؤسسة الدينية حلقة مركزية في إدارة الإيمان البشري، فهي ليست مجرد وسيط بين الإنسان والمقدس، بل جهاز قادر على تحويل الإيمان الفردي إلى سلطة رمزية تضمن استقرارها. لكن السؤال المحوري يظل: ما الذي تخشاه المؤسسة الدينية حقًا؟ هل هو انطفاء الإيمان وانتشار الإلحاد، كما يوحي خطابها المعلن، أم خوفها من تحرر المؤمن من وصايتها؟
تكشف مراجعة متأنية لتجربة الكهنوت الديني أن الخطر الحقيقي لا يكمن في فقدان الدين بحد ذاته، بل في انفصال المؤمن عن المؤسسة. فالمؤمن الذي يظل متشبثًا بعقيدته، لكنه يرفض الخضوع للوسيط الديني، يهدد الأساس الرمزي الذي تقوم عليه سلطة المؤسسة.
وقد بيّن ماكس فيبر أن المؤسسة الدينية، شأنها شأن أي مؤسسة اجتماعية، تسعى إلى تحويل الكاريزما الدينية إلى سلطة تقليدية وبيروقراطية تحفظ نفوذها. ومن هذا المنظور، يصبح الإيمان الحر أخطر على المؤسسة من الإلحاد، إذ إن الأول يقوّض احتكارها المباشر للقداسة، بينما يترك الثاني مساحة لتسويق نفسها بوصفها الحصن الأخير ضد موجات "التغريب" والعلمنة.
فقدان الدين أم فقدان المؤسسة؟
عند تحليل وضع المؤسسة الدينية، من الضروري التمييز بين فقدان الناس لدينهم وفقدانهم للمؤسسة نفسها. ففي الحالة الأولى، أي حين ينصرف بعض الأفراد عن العقيدة أو ينزلقون نحو الإلحاد، تفقد المؤسسة جزءًا من جمهورها لكنها لا تفقد سلطتها الرمزية. بل غالبًا ما تستثمر هذه الظاهرة لتعزيز مكانتها، مقدّمة نفسها بوصفها الحصن الأخير ضد الانحراف. فقد شهدنا ذلك في تجارب مختلفة، سواء في بعض الكنائس الأوروبية التي استخدمت موجات العلمنة لتثبيت حضورها، أو في حركات إسلامية حديثة تعاملت مع العلمانية والإلحاد باعتبارهما تهديدًا يبرر الحاجة إلى المرجعيات الدينية.
لكن الوضع يختلف جذريًا عندما لا يخسر الناس دينهم، بل يخسرون ثقتهم بالمؤسسة نفسها. هنا يبقى الإيمان حاضرًا، بينما تصبح الوساطة المؤسسية موضع تساؤل، فيتحول المؤمن إلى فاعل مستقل يخوض تجربته الروحية دون المرور عبر المرجعية التقليدية. هذا الانفصال هو ما يسميه بيير بورديو "كسر رأس المال الرمزي"، إذ يطيح بالاحتكار الذي يمنح المؤسسة سلطة تحديد معنى الإيمان وممارسته. المثال الأبرز على ذلك هو الإصلاح البروتستانتي، الذي لم يُضعف المسيحية في أوروبا، بل أتاح للمؤمنين قراءة النصوص بأنفسهم، محررًا قطاعات واسعة من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، ومؤسسًا نمطًا جديدًا من التدين الفردي.
وفي التجربة الإسلامية الحديثة نجد دينامية مشابهة. فقد سعى رواد الإصلاح في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إلى إعادة التفكير في النصوص والفقه بعيدًا عن سلطة المؤسسات التقليدية. لم يكن هدفهم تقويض الإيمان، بل تحريره من الوصاية، وهو ما أثار مقاومة شديدة من العلماء المحافظين. كما نلحظ في العراق المعاصر أن محاولات بعض المراجع والمفكرين تطوير أدوات الاجتهاد أو نقد التراث لم تؤدِّ إلى انحسار التدين، لكنها واجهت رفضًا عنيفًا من المؤسسة لأنها تهدد بنيتها من الداخل.
بهذا المعنى، يظهر أن فقدان الدين لا يهدد المؤسسة بالقدر نفسه الذي يهددها فقدان المؤمن لها. فالأول يفتح أمامها فرصة لتسويق نفسها كدرع ضد الانحراف، بينما الثاني ينزع عنها شرعيتها الرمزية ويضعف قبضتها على الحقل الديني، ليترك المجال واسعًا أمام أنماط جديدة من التدين الفردي والحر.
المؤمن الحر: تهديد أعمق من الملحد
تثير علاقة المؤسسة الدينية بالمؤمن الحر إشكالية لافتة، فهي غالبًا تخشاه أكثر من الملحد. فالملحد، من منظور المؤسسة، يقع خارج الدائرة أصلاً، ولا يشكل تهديدًا مباشرًا على سلطتها؛ فرفضه للإيمان يجعل العلاقة معه واضحة الحدود: هو الآخر المختلف الذي لا يُتوقع منه الانصياع أو الطاعة.
أما المؤمن الحر، فإنه يحمل في داخله بذرة التساؤل والتمرد. حين يفكر خارج إطار المؤسسة ويعيد قراءة النصوص بوعي فردي، يصبح أكثر خطورة من الكافر، لأنه يتكلم بلغة الدين نفسها، ويملك القدرة على زعزعة الرواية الرسمية من الداخل. لذلك تنظر المؤسسة بعين الريبة إلى الأصوات الإصلاحية والتجديدية القادمة من بيتها، وتتعامل معها بوصفها تهديدًا وجوديًا، لما لها من وقع أعمق وتأثير أوسع على الناس.
فالملحد لا يسحب البساط من تحت أقدام المؤسسة، بينما يفعل ذلك المؤمن الذي يطالب بإيمان واعٍ مستقل. ومن هنا نفهم لماذا كانت المؤسسة عبر التاريخ أكثر قسوة على أبنائها المفكرين الذين حاولوا التجديد، من قسوتها على الخارجين عنها تمامًا. فالخطر الحقيقي يكمن في من يشاركها المرجعية نفسها لكنه يرفض وصايتها، لا في من يرفض الإيمان برمته.
أمثلة من الواقع الديني
في السياق الشيعي، لا يُعد انتقاد المرجعية أو مساءلة مواردها المالية أمرًا عابرًا، بل غالبًا يُعامل كخيانة. حتى لو كان المنتقد عالم دين مخلصًا لمذهبه. وتكشف محنة كمال الحيدري كيف تتحول المؤسسة إلى قوة طاردة لكل صوت إصلاحي، حتى لو انطلق من عمق الإيمان المذهبي ذاته. فالحيدري لم يخرج عن التشيع، بل دعا إلى قراءة نقدية للتراث وتطوير أدوات الاجتهاد، لكن مجرد خروجه عن النسق المألوف جلب عليه اتهامات وتشكيكًا وإقصاءً من دوائر التأثير.
أما في السياق السني، فقد وُوجه الإصلاحيون بالقمع ذاته، وإن اختلفت الأدوات. منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مرورًا بعلي عبد الرازق الذي جُرّد من مناصبه بعد كتابه الإسلام وأصول الحكم، وصولًا إلى نصر حامد أبو زيد الذي حوكم على إيمانه نفسه، ومحمد شحرور الذي طُوردت أفكاره عقودًا، يتكرر المشهد نفسه: كل محاولة لإعادة قراءة التراث أو فتح باب الاجتهاد تُواجه باعتبارها خيانة دينية، رغم أن أصحابها لم يتخلوا عن إيمانهم.
وفي المسيحية اللاتينية، واجه لاهوت التحرير حملة شرسة من الفاتيكان، لأنه دعا إلى تدين شعبي تحرري يربط الإيمان بالعدالة الاجتماعية، لا بطاعة الكنيسة. تتجلى هنا القاعدة نفسها عبر السياقات الدينية المختلفة: المؤسسة لا تخشى الإلحاد بقدر ما تخشى إيمانًا يتحرر من سيطرتها المباشرة.
من الدين إلى المؤسسة.. ومن المؤسسة إلى الدين
من أخطر المخاوف التي تكشفها المؤسسة الدينية، تلك المتعلقة بالعلاقة الملتبسة بين الدين والمؤسسة. فالدين في أصله تجربة إيمانية حية، تنبض بالمعنى والروح، وتدعوك إلى الارتباط بالله بحرية واختيار. لكنه ما إن يتحول إلى مؤسسة، حتى يبدأ في الانغلاق حول نفسه، ويُعاد إنتاجه وفق حاجات المؤسسة الخاصة.
يتحرك المسار أولًا من الدين إلى المؤسسة، حيث تتشكل طبقة من رجال الدين تتبنى دور الحارس والوسيط، وتدّعي امتلاك الحق في تفسير النصوص وتمثيل الإيمان. ثم يعود المسار من المؤسسة إلى الدين، فيُعاد إنتاج الأخير على صورة الأولى: يصبح الدين هو ما تقوله المؤسسة لا أكثر. في هذه الدائرة المغلقة، يفقد الدين طابعه التحرري، ويتحول إلى منظومة من الطقوس والالتزامات التي ترسخ الطاعة والولاء، لا البحث عن الحقيقة أو العدالة.
هنا يكمن جوهر الخوف: فالمؤسسة، رغم ادعائها الدفاع عن الدين، تخشى انكسار هذا النسق الدائري. فهي تدرك أن العودة المباشرة إلى النصوص قد تمنح الناس حرية الفهم والتأويل، وتتجاوز المؤسسة باعتبارها وسيطًا تاريخيًا فقط. لذلك، يظل بقاء المؤسسة مرهونًا باستمرار هذه الحلقة المفرغة، التي تجعل الدين رهينًا لتصوراتها، وتحوّل طاعة المؤسسة إلى جزء من طاعة الله في وعي الجمهور.
اقتصاديات المؤسسة الدينية
لا يمكن فهم هواجس المؤسسة الدينية من دون التوقف عند بنيتها الاقتصادية، التي تشكّل وجهًا آخر لسلطتها. فالمؤسسة لم تكن يومًا مجرد جهاز رمزي أو معرفي، بل هي أيضًا كيان يمتلك موارد مادية ضخمة تمكّنه من الاستمرار والتأثير.
في التجربة السنية، لعبت الأوقاف دورًا حاسمًا في تمويل العلماء والمدارس الدينية، وبناء شبكة نفوذ اجتماعي جعلت المؤسسة لاعبًا لا يمكن تجاوزه. وفي التجربة الشيعية، شكّل نظام الخُمس موردًا استثنائيًا، لأنه أتاح استقلالية مالية شبه تامة عن الدولة، ومكّن المرجعيات الكبرى من احتكار إدارة الثروة وتوظيفها لتعزيز حضورها وسطوتها. بهذا التزاوج بين الرأسمال الرمزي (القداسة) والمادي (الموارد المالية)، كما وصفه بورديو، ترسخ حضور المؤسسة ليس فقط بوصفها سلطة روحية، بل أيضًا بوصفها سلطة اقتصادية.
لكن هذا الوجه الاقتصادي، الذي يبدو مصدر قوة، يحمل في الوقت نفسه مخاطر كبيرة. فرفض المؤمنين أداء هذه الالتزامات المالية أو إعادة النظر في مشروعيتها قد يتسبب في تصدع البناء كله. فالتحرر من الوصاية الدينية لا يهدد الشرعية الرمزية فحسب، بل يفتح الباب أمام أزمة مالية قد تقوض كيان المؤسسة، وتحولها من قوة نافذة إلى جهاز مترهل فاقد لموارده. ومن هنا نفهم أن الدفاع المستميت عن الخُمس أو الأوقاف ليس مجرد مسألة فقهية، بل دفاع عن البنية المادية التي تضمن استمرار السلطة الدينية نفسها.
المستقبل الممكن للتدين ما بعد المؤسسي
تبدو ملامح المستقبل الديني في العالم المعاصر متجهة نحو أنماط جديدة من التدين، لا تمر بالضرورة عبر بوابة المؤسسة التقليدية. فقد أتاح العصر الرقمي فضاءات بديلة للبحث عن المعنى الروحي، حيث تحولت المنصات الإلكترونية إلى ساحات للفتوى والتأمل والتجارب الدينية الفردية، بعيدًا عن احتكار المرجعيات الكلاسيكية.
كما ظهرت نزعات متنامية نحو الروحانيات الشخصية، التي تمكّن الفرد من اختيار ممارساته التعبدية وفق تجربته الذاتية، لا وفق الوصفات الجاهزة التي تفرضها المؤسسة. ويضاف إلى ذلك الحركات الإصلاحية التي تسعى إلى تحرير النصوص من قبضة الاحتكار التفسيري، وإعادة قراءتها بروح عقلانية تتجاوب مع أسئلة العصر.
هذه التحولات لا تعني أن المؤسسة ستختفي في المدى القريب، لكنها تكشف أن سلطتها لم تعد مطلقة كما كانت، وأنها مضطرة لمواجهة منافسة حقيقية على معنى التدين نفسه. كما يصف خوسيه كاسّانوفا هذا الاتجاه بـ"التدين ما بعد المؤسسي"، أي انتقال الإيمان من الإطار الجمعي الخاضع لسلطة الكهنوت إلى المجال الفردي الحر، حيث يصبح الدين خيارًا شخصيًا أكثر منه التزامًا مؤسساتيًا.
هنا يكمن التحدي الأكبر للمؤسسة: فحتى إن بقيت قادرة على الصمود شكليًا، فإن انحسار وظيفتها كوسيط وحيد بين الإنسان وربه يضعف منطقها الداخلي، ويفتح الباب أمام إعادة تعريف الدين بوصفه تجربة إنسانية مباشرة، لا تحتاج إلى وصاية.
الخاتمة
يتضح في النهاية أن الخوف العميق الذي يسكن المؤسسة الدينية ليس من الإلحاد ولا من انطفاء الإيمان، بل من إدراك المؤمنين أنهم قادرون على عيش تجربتهم الدينية بعيدًا عن وصايتها. فالإيمان الذي يتحرر من الوسيط يضعف أسس سلطتها الرمزية، والإيمان الذي يتجاوز التزاماتها المالية يهدد مواردها المادية، والإيمان الذي يميز بين الدين كتجربة روحية خالصة والمؤسسة ككيان بشري يفتح الباب أمام أنماط جديدة من التدين الفردي الحر.
وهنا يكمن السؤال الذي يربك المؤسسة أكثر من غيره: هل يمكن للناس أن يكونوا متدينين بلا مؤسسة؟ من منظور سوسيولوجي وفلسفي، الجواب يميل إلى الإيجاب، لكن الاعتراف بذلك يعني انهيار الأساس الذي قامت عليه شرعية المؤسسة عبر القرون. لذلك تظل المؤسسة حريصة على الترويج لفكرة أن الدين لا وجود له إلا بها، وأن الإيمان بلا طاعة ناقص ومبتور.
غير أن مسار التاريخ يوضح أن الدين أوسع من المؤسسة، وأن التجربة الروحية ستجد دائمًا سبيلها لتأكيد ذاتها، حتى لو تراجعت الأطر التقليدية. وهكذا، يصبح الخوف الحقيقي للمؤسسة ليس من صومها، بل من أبنائها المؤمنين الذين يختارون أن يؤمنوا بلا وصاية.
***
محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي