آراء
سامي عبد العال: الاستعارات القاتلة (1)

" تحمل الاستعارة السياسية شحنةً متفجرةً كحزامٍ ناسف استحضاراً لأصلٍّ ما ليس لها ...."
" تتحصن اسرائيل منذ تأسيسها داخل استعارات لا تنتهي، ولم ترَ الواقع بعد ...."
" أحياناً تُوظف الاستعارات السياسية كتمائم في حاجةٍ إلى طقوس لا إلى حقائق ...."
ثمة علاقة عضوية بين الاستعارة والسياسة، من حيث أنَّ السياسة ليست (فناً للممكن) إلاّ باعتبار الممكن حدثاً مجازياً قابلاً للتحقُق. إذْ لا يخلُو كلُّ ممكن- بحكم التعريف - من انجاز استعارةٍ ما، سواء أكانت في شكل صورةٍ أم فكرةٍ أم حقيقةٍ. حدُ الممكن Possible هو حد الجواز واتيان المستطاع من الأشياء. لعلَّ كل ما هو جائز يتشكّل على هيئة محتملة في طريقه إلينا. والسياسية لا تعمل في فراغ، لكنها تراثٌ من الأفعال الجائزة التي حدثت والتي لم تحدث. والجائز ينبني على المسار المتخيل لما قد يحدث. إنَّ الممكن هو (حدوث الحدث) لا أقل. وطالما أنَّ هناك شيئاً ما ممكناً، فإنه يستحث الفاعل السياسي لاتيانه بصيغة: ولِمَ لا. وهذا ما يجعل السياسة تتضمن لوناً من المجازفات غير محسومة العواقب. أنْ تكون سياسياً يعني أنْ تجازف بما يواكب الممكن الذي تريده وغير المتوقع في الآن نفسه.
على صعيد الممارسة، حين يغدو الممكن فعلاً جارياً، تمسي الاستعارات حاضرةً إنْ لم تكن هي (حالة الحدث) ذاته. لأنّها ستدخل بالتبعية إلى ساحة التفاعل بين أفراد المجتمع طالما أنَّ هناك آخر. فلو قلنا إنَّ (مكانة سياسية معينة) سيصل إليها (حاكمٌ ما)، فهذه استعارة لصورة يراها الحاكمُ لنفسه، استعارة وفقاً لنموذج أو مثال أو ايديولوجيا معينة. وقد يجسدها الخيال الجمعي كاستعارةٍ لنمط من الرمزية التي تُخلغ عليه. وما يجري على الحاكم سيجري بالمثل على جميع جوانب السياسة الأخرى.
في إطارٍ كهذا، تندرج السلطة كأنَّها مادة لزجة الهيمنة على موضوعاتها بحكم خصائصها المادية والرمزية. إنَّ السلطة فضاءعام يتشكل قطباه من (الرغبات والمخاوف) استناداً إلى رصيد القوة من الأبنية المجازية واسعة التأثير. ومن ثمّ، فإنّ (السياسة والاستعارة) تشتركان في المغامرة غير محسوبة العواقب، بل يوجد فيهما تجاوز لحدود الواقع وانتهاك للمعايير والقيم والحدود الثابتة.
ذلك تحديداً هو ما تفعله اسرائيل على نطاق أكبر بوصفها استعارةً سياسية للقوى الكولونيالية. لقد انفلتت من عقالها الإنساني والاخلاقي، وباتت كنيزك يحترق ويتشظى فوق رؤوس البشر في أي مكان. إنَّ تاريخ الكيان الكولونيالي– كما سأوضح - هو تاريخ الاستعارت التي تنتهك القيم والمبادئ والعلاقات، بدءاً من استعارية الوعد بتأسيس وطن قومي لليهود ومروراً باستعارة أرض الميعاد وانتهاءً بمحرقة غزة والابادة الجماعية للشعب الفسطيني. الاستعارة السياسية هنا استحضار لنموذج ما واحلال شيء محله من أجل القيام بوظائفه النوعية واقتناص المعاني الكامنة فيه. بحيث يبدو الشيء الحال محل الشيء الآخر مشاراً إليه وكأنّه هو. واسرائيل تلعب اللعبة الاستعارية بطريقة متعددة الأبعاد:
1- تتقمص دور الأصل الغربي (الغرب الأوروبي– الأمريكي) آخذة في الاحلال محلة.
2- تقتل الشعب الأصلي (الفلسطنيين) للاستيلاء على الأراضي واستيطانها بالقوة الحربية.
3- ترسم صورةً مرعبةً من الدمار الذي يرمي باطراف الخوف إلى اقاصي المعمورة.
4- تصدّر النهاية الفاجعة التي لا بعدها نهاية مادامت اسرائيل لم تمتلك موطئ قدم في الأراضي الفلسطينية.
5- تتسلح بالأسلحة والتقنيات الأكثر تطوراً لقطع الطريق على ملاحقتها تكنولوجيا.
6- تقدم نفسها في صور ما بعد حداثية براقة كدولة قائمة على التنوع والتعددية تمايزاً عن جيرانها.
7- تتسربل بالغموض والإلغاز لزيادة مساحة العمى كأحد الفخاخ أمام المتابعين.
8- التمويه الحاصل في دولة الكيان بين اللاهوت والسياسية في رأس صهيوني مشترك، الجندي في ملابس الحاخام والحاخام في بزة السياسي.
9- العلاقات المشبوهة سياسياً بين اسرائيل وبين الجماعات والكيانات المماثلة كولونيالياً أو سياسياً.
والاستعارة ضمن هذا تتجلي: إما في شكل (خريطة الدولة الصهيونية) التي لم تكن موجودة ثم كانت بالوعد التاريخي والقوة العسكرية. وكذلك قد ترسم الدولة (بنية استعارية) عبر أنماط القتل والحروب غير التقليدية، لأنها لم تكن أصلاً في يوم من الأيام. وإما أنْ تنتهج دولة الكيان الصهيوني (أسلوباً استعمارياً مختلفاً) إزاء سكان الأرض الاصليين، وتقول للعالم سأحتل هذه المنطقة بالعنف القاتل ولا أحد يستطيع الاقتراب. كلما زادت وتيرة الاحداث الفاجعة بدرجة ميتافيزيقية، كانت النتائج التفاتاً كلياً إلى الصور المرعبة لا إلى الحق الأصلي. وهذه الاستعارات ترمي (قضية الاحتلال) إلى الأمام، بحيث ينشغل العالم بالقتل والمساعدات وعدم التهجير والاحوال غير الآدمية، متناسياً أن دولة الكيان الكولونيالي لا مكان لها ابتداءً في فلسطين التاريخية وأنها (دولة مختلقة) من الأساس.
بصدد السياسة الكولونيالية (الغرب + اسرائيل)، تتاح أمام الاستعارات كل فرص الاستغلال الممكنة داخل حدود التوظيف والممارسة. لأنّ كل سياسية من هذا اللون تمتلئ بفائض القوي التي تضخ في عناصرها أنفاس الحياة. وتظهر الأشياء على خريطة فضفاضة بخلاف الواقع المحدود: هناك الوظائف السياسية المحتملة، الأوهام، الرموز، الأخيلة، التبديلات، الصور، الأكاذيب، الخطط المرسومة، المناورات، الوعود السياسية، المؤامرات، الدسائس، الخطابات البلاغية، الاستراتيجيات. كل ذلك يشكل واقعاً كولونيالياً من لحم ودم بصورة كانت مجازية. إن الاستعارات السياسية تهبط على الأحداث لتعيد تشكيل الحقائق والأفعال.
حتى أن الزعماء والقادة يسيرون أمام مواطنيهم، وقد ارتدوا الاستعارت التي تبدو واقعية ومصدقة تماماً. من ينظر إلى أعضاء الحكومة الاسرائيلية أثناء الاجتماعات يعتقد أنها حكومة تتمتع بكامل الحقوق التاريخية لدولة عتيدة. إذ تحرص الكاميرات الصهيونية على سرد المشاهد من أعلى أو من جانب يثير الخيال في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبدو بنيامين نتنياهو أمام الكاميرا كأنه (قائد حربي) آت من بين ملوك وزعماء بني اسرائيل. وهذا يدخل في باب الاستعارات التي تلون واجهة الدولة الصهيونية أمام المشاهدة، وجزء لا يتجزأ من السرد المجازي لأساليب أعنف آتية لا محالة. إن الصورة الاستعارية كالرصاصة التي خرجت ولن تعود إلى فوهة البندقية مرة أخرى. تراهن اسرائيل على مشاهد الاحتلال كقطعٍ من الشطرنج الذي يجذب المشاهدين إلى اللعب السياسي. أحد اشكال الاستربتيز (التعري) الدموي الذي يراه العالم أجمع ليلاً ونهاراً دون أن يحرك ساكناً. دولة كولونيالية تتعرى دموياً فوق جثث واشلاء الضحايا الأبرياء وهم أصحاب الأرض.. يالها من كارثة حطت فوق رأس الانسانية في أي مكان وزمان!!
تشتغل الأطياف الاستعارية لاسرائيل عند الضرورة، وتتجلى معانيها كما لو كانت حقائق راسخة وجالبة للأهداف والمآرب. تبدو استعاراتها السياسية بوصفها عملية تسابق الفعل والحركة نتيجة التبديل القائم على مرجعية الأصل إذ يتوارى نسبياً. وعليه ستظهر حركة الأشياء كأنّها حرة وقابلة للتسارع، مع أنها تبقى مرهونة باحتمالات النموذج الكولونيالي وقدراته على إثارة الخيال أمام الاشتغال بالاستعارة.
أمام تجسد الاستعارة في السياسات الكولونيالية عدة نقاط:
1- الفجوة: هي مساحة بين الأصل والصورة. وهي التي توفر قدرة الصورة على التخييل واستعمال كافة الحيل والألاعيب توحُداً بالأصل وتقمص دلالته. وفي السياسة تحفر الاستعارات الفجوة بمعاول من حروب وصراعات ودماء دون توقف. الفجوة بمثابة طاقة كامنة تتخذها الصور المستعارة- كما تمارس اسرائيل- في التدمير والرمي إلى ابعد نقطة ايغالاً في الوحشية والقتال. ليست بين اسرائيل وأمريكا فجوةٌ بمعناها الحضاري أو المكاني، لكنها (فجوة مصطنعة) من نوع آخر، حيث تحاول اسرائيل مطاولة التاريخ الدموي للأمبراطورية الامريكية. كأنَّ هناك سباقاً محموماً لانجاز الاحتلال الاسرائيلي لما انجزته دولة المركز الأمريكي خارج الشرق الأوسط.
2- المجازفة: لا تخلو الاستعارات السياسية من مجازفة مجنونة، نتيجة أنها انتقال بلا ضمان من النموذج (الغربي) إلى الصورة (الاسرائيلية) التي تتقمصه. وهذا عمل بلا ضمان وقد يكون قتلاً لكل من يعترض وقد يكون تزييفاً وقد يكون اختلاقاً. وهذا ما كان يتضمنه خيال اسرائيل بوصفها (دولة الرب) إلى شعبه المختار.
ولكنه في الأساس حدث مع اسرائيل كصورة من الغرب الكولونيالي، لم تكن مجازفتها إلا سرقة لأراض عربية ليست لها. وكل ما يقال عن وجود الشعب اليهودي في فلسطين إنما حقيقته أن بعض اليهود كانوا موجودين كأصحاب ديانه فقط. ولكنهم لم يكونوا قوميةً بمعناها السياسي المؤدلج مقارنة بحقوق الشعب الأصلي. ولم تكن هناك محاولات عسكرية لترانسفير أهل فلسطين إلى الخارج. ولم تؤدلج المنطقة في إطار الهيكل المسيّس لمُلك بني اسرائيل.
3- الخداع: كل استعارة سياسية تفترض ضمنياً أنها حيلة لأخذ مكانة لايستحقها من يستعير صورة الأصل. الخداع جزء لا يتجزأ مما يجري بالطبيعة البنيوية للممارسات الجارية. اسرائيل ككيان سياسي هي كيان مخادع في ذاتها. تسير الدولة (المؤسسات- الإدارة – الجيش- المظاهر العامة- العلاقات الدولية – مظاهر الحياة- الشخصيات) كما لو كانت حقيقةً. بينما هي الحياة عبر الخداع وراء الخداع طوال الأمر، أمر كان مآله إلى الافتضاح والانكشاف من وقتٍ لآخر. ولذلك لم تمُر حقبة تاريخية من عمر اسرائيل إلاَّ وتجري ممارسات صهيونية تفضح طبيعة استعاراتها السياسية. اسرائيل تراث من الحيل والألاعيب التي لم تكف عن خلق مشاكل للدول المجاورة أو غير المجاورة.
مرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (اسرائيل التوراتية) من الفرات إلى النيل، ومرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (الدولة الجيوسياسية) كما اعترفت بها الأمم المتحدة مع غياب حقيقتها، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (الحليف الاستراتيجي) الذي يريد عيشاً في سلام ووئام، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (دولة اليهود)، حيث ضاقت بهم الدنيا وليس لهم من ملجأ إلاَّ بقعة جغرافية مقذوفة على كوكب الارض بين أنياب الجيران الأشاوس!! ولكن في كل هذه الاستعارات وغيرها لا أحد يعرف: ما حقيقة اسرائيل بالضبط؟!! وبجانب ذلك تفترض الحالة أن هذه الاستعارت في حاجة إلى طقوس وشعائر مسيَّسة أمام العالم وأمام جيرانها العرب بالأخص.
4- العنف: تنطوى الاستعارة السياسية على كم مخيف من العنف. لأن طبيعتها تتميز بالانحراف وعدم الاعتراف بالحدود وتجاوز كل الاعراف والتقاليد. كيف ستكون هناك حدود للكيان المستعار ابتداءَ وهي حدود جالبة لصورة لا تحق للطرف المستعير؟!! فاسرائيل ليست هي الغرب الأمريكي حقيقةً، ولكنها تتمثل قدراته على الانحراف والتجاوز.
وهذا هو الأخطر ولذلك ليست هناك دولة تولد من لاشيء ثم تمارس دورها الاقليمي والجيوسياسي كأنها واقفة على ميراث ثقافي وجيولوجي يطاول جاراتها من الدول منذ آلاف السنوات. ويحل شعبها المشتت من كل حدب وصوبٍ، محاولاً أن يطاول الشعب الفسطيني العريق. هذا هو ذروة العنف الاستعاري الذي لا حدود له. الاستعارة تغتصب واقعاً باسم الأصل الذي لن يأتي ولن يتمكن من الاتيان. الواقع المغتصب يستعار تحت العنف المتواصل.
5- الموت: تختلط كل استعارة بموت معين ظاهراً كان أم متوارياً. لأن العنف الذي يحدث باسم الأصل الكولونيالي لن يبلغ مآربه إلا بالاجهاز على موضوع العنف (الشعب الأصلي). ولأن الاستعارات الاسرائيلية تريد الانهاء على السكان الأصليين، فهي تستخدم فائض العنف القاتل باستمرار. إن الاستعارات ذاتها باسم جيش الدفاع الاسرائيلي أو باسم المستوطنات أو باسم الاعمار هي استعارات موت. لنلاحظ أنه لا توجد لدى اسرائيل تهدئة بالمعنى المعروف سياتسيا ولا توجد ردة فعل منايسيب لكونها لا تعترف بالمعايير ولكونها تغفقتقد إلى حق الوجود. وفي حالة فقدان الوجود تنتهك – إلى حد الابادة- أي وجود آخر بالتبعية.
باتت اسرائيل عنواناً ضالاً للموت من أي اتجاه. القتل الاسرائيلي كالكلب العقور الذي ينهش كل من يقابله. ولكنها توجه القتل بالتكنولوجيا الكولونيالية إلى صدور الفلسطينيين. فهي ترى أن حقل اشتغال استعارتها المميتة عبر هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وطبعاً يجري الموت في حالة دعم ورعاية الغرب الأمريكي، حيث يرسم الأخير الخطط والاستراتيجيات ويزود حليفه الصهيوني بأعتى الاسلحة والمساعدات الحربية.
وهذه حبكة المفارقة الساخرة أنَّ أصل الاستعارة (امريكا) ينضم بنيوياً للصورة المنحرفة عنها (اسرائيل). في ايماءة أن السياسة الكولونيالية لا تعترف بأية حقوق صغيرة أو كبيرة. وأن ذلك برهان على كون اسرائيل حالة صارخة من الاحتلال الذي مازال سارياً، رغم ترسانة المؤسسات والقوانين والمنظمات الدولية التي ترفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة بين الشعوب. وهذا معناه أن هناك (استعارات موت) تحاصر الضحايا وتُسمى بأعمال الابادة الجماعية. كل استعارة سياسية مما سبقت خليقةً برفع راية الموت إزاء أُناس أبرياء في فلسطين.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة