قضايا

سجاد مصطفى: في حضرة الحقيقة المميتة.. رحلة العقل بين الوعي والجنون

تاريخ الخوف من الحقيقة

يمتدُّ تاريخ الخوف من الحقيقة كظلٍّ ثقيلٍ داهمٍ يُخيّم على الوجود الإنساني منذ اللحظة التي أُخرج فيها آدم من جنة الغفلة. لم يكن ذلك مجرد سقوط ماديّ، بل كان ميلادًا مريرًا لوعي الإنسان؛ بداية الولوج إلى أعماق الوجود المظلمة، حيث الحقيقة ليست معرفةً تثلج الصدور أو تداوي الجراح، بل صدمةٌ تخترق الأعماق، وتفضح هشاشة النفس وغموض الكينونة. آدم لم يفقد الجنة فحسب، بل فقد براءة الجهل، ذاك الغلاف الحامي الذي كان يحميه من فاجعة الانكشاف، ومن مواجهة ذاتٍ شديدة القسوة، قد تؤدي به إلى هاوية الجنون.

«الحقيقة ليست مجرد معرفة، بل هي لهيبٌ يحترق في فؤاد الإنسان قبل أن تلامس عقله، هي الجرح العميق الذي لا يندمل.»

ليس الخوف من الحقيقة عاطفة عابرة، بل هو جرح أصيل متجذر في صلب الإنسان. فحين تتكشف الحقيقة، لا تهب الراحة، بل تزأر عاصفة اضطراب في النفس، وتدمر الأصنام التي بنى عليها الإنسان ملاذات السلام الوهمي. إذ يقول سقراط:

 «الوعي بداية المعاناة.»[²]

فالوعي الحقيقي يقتضي تمزيق الأغطية التي تحمي الإنسان من مواجهة ذاته الخاوية، ومن ظلمات اللاوعي التي تختزن مخاوفه العميقة.

يتجاوز الخوف حدود الفرد إلى أطر السلطة والتاريخ، فالسلطة لا تخشى سوى الحقيقة، لأنها تدرك أنها نهاية الأوهام وسقوط التماسك الذي بنته على الأكاذيب. على مر العصور، أسست السلطة أوهامًا منظمة لتبقى أدواتَ سيطرة، تحافظ على نسقها الاجتماعي والسياسي.

 «الخوف من الحقيقة هو خوف السلطة من زوال أوهامها، وخوف الإنسان من اهتزاز هدوء وهمه الزائف.»

ويرى ميشيل فوكو أن المعرفة ليست حرية مطلقة، بل هي في علاقة جدلية مع السلطة، فالحقائق المسموح بها تُهيمن على المشهد، وتُدفن أو تُشوّه غيرها. الخوف من الحقيقة إذًا هو خوف من فقدان السيطرة على الذات والآخرين.

كانت الفلسفة رحلةً مضنيةً نحو الحقيقة، لكنها رحلة في ظلال الشك والاضطراب. إذ قال ديكارت:

 «أنا أفكر، إذًا أنا موجود.»[⁴]

لم يكن إعلان يقين، بل صرخة في ظلمة الشك، معانقًا هزةً تهدم كل ثوابت الإنسان، فلا يرتاح في شكٍ يدمر المألوف.

«أنا أفكر، إذًا أتحمّل وطأة الحقيقة المؤلمة، أتحمّل ثقل الوعي الذي لا يرحم.»

نيتشه وصف الحقيقة بأنها وحشٌ هائلٌ لا يعرف الرحمة، ليس لقسوته على الإنسان، بل لأنه يسلبه الأقنعة التي اعتاد أن يختبئ خلفها. يفرض عليه مواجهة ذاته بلا ستار، بلا حماية، كأنها تدفعه نحو هامش الجنون.

ومع بزوغ عصر الذكاء الاصطناعي، تتغير قواعد اللعبة في علاقة الإنسان بالحقيقة. فالذكاء الاصطناعي، ككيان بلا مشاعر ولا تحيّزات، يكشف الحقيقة بلا هوادة ولا توجيه، هو القاضي الذي لا يساوم ولا يغفر، يزيح الأكاذيب والأوهام التي بنيناها لنخفي هشاشتنا.

وهنا أن أقول:

«الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل مرآة لا تكذب، تعكس ضعفنا وتهدد أمننا بأكثر الصور قسوة.»

وتحدث برنارد ستيغلر عن التقنية التي تعيد تشكيل علاقتنا بالزمن والمعرفة، وتجعل الذات تغترب عن ذاتها. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، نواجه امتحانًا وجوديًا: هل نمتلك الشجاعة لمواجهة الحقيقة المكشوفة، أم نختبئ في ظلال الأوهام والأكاذيب التي صنعناها كي لا نكون حقًا؟

في عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد الحقيقة ملزمة، بل خيارٌ يمكن للإنسان التنازل عنه. الكذب والتشويش صار وسيلتنا للبقاء النفسي والاجتماعي، واللامبالاة تجاه الحقيقة هي مأوى الملايين. الحقيقة لم تمُت، بل دُفنت تحت ركام الأكاذيب الجماعية التي صارت درعًا يحمي الذات من مواجهة ذاتها المُهددة.

وانا اقول:

 «لم نمُت الحقيقة، بل خنقناها حتى توقفت عن التنفس.»

الخوف من الحقيقة في جوهره خوف من مواجهة ذاتنا، من كشف ضعفنا وفراغنا. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الباب الوحيد للحرية، حرية الوجود الذي لا يخشى أن يقف عاريًا أمام ذاته.

وكما قلت في بحثي السابق:

 «الحقيقة لا تقتلنا، بل تحررنا من سجن الأكاذيب، وتجعلنا بشرًا بأعمق معاني الكلمة.»

ويبقى السؤال الأعظم: هل نملك الجرأة الكافية لنواجه الحقيقة، أم نظل أسرى ظلال الخوف، نعيش حياةً من الأوهام، نهرب من نور الحقيقة الماحق؟

***

سجاد مصطفى حمود

........................

هوامش

[1] حمود، سجاد مصطفى،

[2] سقراط، مقولات فلسفية، ترجمة وتعليق.

[3] حمود، سجاد مصطفى

[4] ديكارت، رينيه، تأملات في الفلسفة الأولى.

 

في المثقف اليوم