قضايا

كريم الوائلي: البلاغة الفارغة من التهويم الخطابي الى التغير الاجتماعي

تتكئ ثقافتنا المعاصرة على نحو العموم على التراث أكثر من اعتمادها على الواقع، ولذلك فأنها تقابل بشاعة الواقع وتجهمه وقساوته بالاستماع والانتشاء بجمال الصوت والتشبيه والاستعارة، وبذلك يتحول الابداع من كونه معالجا تشوهات الواقع الى تجميل الاساليب والصياغات، ويتحول هذا الخطاب وبلاغته من كونه اداة لطاقة عقلية خلاقة الى أداة لتخدير المجتمع، بمعنى انَّ الخطاب هنا ليس اداة للإقناع، وسعيا للتغيير، وتزويد المتلقي بالوعي، وانما يصبح ستارا ضبابيا مكثفا يحجب الواقع بكل ما يشتمل عليه من تناقضات، فانه يحجب بؤس الواقع وقسوته، وبشاعة استغلال الانسان لأخيه الانسان، واكثر من هذا انها قد تجمل القتل الوحشي بوصفه قضاء على الانحراف، وبداية لصياغة العقول بحسب معتقدات القاتل.

إنَّ بلاغة الخطاب تصبح أداة لتلميع الأردية البائسة والأقنعة الشريرة وتهدف الى تجميل الخواء، إنها بلاغة فارغة لأنها لا تشتمل على رؤية لتغيير الواقع واستشراف المستقبل، ولا تسهم في تحرير المجتمع بامتلاك أداة الوعي، كل ما في الأمر أنها تكتفي بجمالية التشبيه وبهاء الاستعارة وبراعة المقابلات والمطابقات في وشي البلاغة وزخرفها، ومن ثم فلا مضمون جديد يعتد به.

إنَّ المدهش حقا في مجتمعاتنا العربية الحديثة حالة استرخاء تام، وهي تبصر اتساع الهوة بين القول والفعل، ومن الملاحظ ان انتاج الثقافة والوعي سواء أكان في ثقافة السلطة الرسمية أم في غيرها، وحتى في ثقافة المعارضة، انما هو إعادة لذات الانتاج الانشائي الخاوي الذي لا يبصر الواقع ولا يعترف به، كما ان صدق الخطاب يتجلى هنا بزخرف القول وليس بالاعتراف بالواقع والبحث عن في ثناياه عن معضلاته وقراءتها نقديا، ولذا فان هذا اللون من الثقافة يعلي من شان مفردات : التاريخ المجيد، والبطولات المتوهمة، والعنتريات الزائفة، والمصير العظيم، لكنها لا تستطيع ـــ وهذا واجبها الأساس ـــ تقديم تصور عن سياسة تعليمية متطورة، او نظام صحي منصف صحيح، ولا تكشف عن علاقات تحفظ للإنسان كرامته.

وليس هناك اخطر من اللغة وبلاغتها حين تستعمل لتخدير الشعوب بدلا من تنبيهها، وتتحول بلاغة اللغة الى مجرد بلاغة فارغة ممجوجة، تهدف الى تسكين الازمات، وتهدئة المتناقضات، وترحيل الأزمات، وتمييع المسؤوليات، وبذلك تصبح البلاغة لونا ثابتا من المضامين تتكرر في أثواب قشيبة متعددة، إذ تتكرر الصيغ الجمالية الجاهزة، ويتضخم الاعلاء من شان التمجيد والتبجيل، وتتحول الهزائم الى انتصارات، في حين يكون الواقع غارقا في الانكسار والفساد والتهميش.

إنَّ أغلب الصياغات التي توظفها السلطة الرسمية تتجلى فيها بوضوح ما يمكن ان نطلق عليه ـــ التورم البلاغي ـــ لان الصياغات، والحالة هذه، تخضع لسيطرة الزخارف البلاغية، إذ تضيع الفكرة تحت وطأة افياء تشبيهاتها واستعاراتها وتحت وطأة ايقاعها.

إنَّ الخطاب الرسمي السياسي والديني والتربوي انما يكتبه انصاره لمجرد ان يقال، وليس من اجل ان يفعل، ويستعمل ليس للنقاش، وانما كي يبهر السامع ولا يغيره.

اننا في ضوء هذا لا ندعو الى محاربة البلاغة كما عرفناها في تراثنا، سواء اتفقنا او اختلفنا مع جابر عصفور حين قسم البلاغة الى بلاغة السلطة، بلاغة القامعين، وهي بلاغة الوضوح، او بلاغة المعارضة، وهي بلاغة المقموعين، وهي بلاغة الرمز والاشارة، اقول لا ادعو الى محاربة البلاغة بهذا الشكل وطردها خارج اطار الابداع، وانما نسعى الى تحرير البلاغة من التهويمات الفنية المبالغ فيها، ولكن البلاغة حين تكون نابعة عن رؤية حقيقية، وتشتمل على قيم أخلاقية، وتطمح الى التغيير الإيجابي، تصبح بهذا، ليست اداة اظلام، وانما اداة تنوير، ولكنها حين تفقد بوصلتها الحقيقية وتصبح غايتها التأثير، ليس غير، من اجل اقتناص اللحظة والانفعال الزائف، فأنها تتواطأ مع الاستبداد وتخدم التخلف وتزين للناس الفساد والهزائم .

إنَّ الخطاب التغيري ينبغي له ان تستفيد فيه اللغة من شرف المعنى ونبل الغاية، وليس بهرجة الالوان وجلجلة الصوت، وندعو هنا الى تفكيك الموالاة بين انصار هذا الخطاب واصحاب السلطة القمعية، أي كسر التواطؤ بين السياسي والمنبر الثقافي، وتهشم تبعيه المستمع للواعظ، وتزيح سلطه الكاتب المدجن، وخصوصا الإعلامي المدجن، عن القارئ، اننا نريد للكلمات ان تسهم بالفعل، وللشعارات ان تحدث التغيير، فالكلمة اذا لم تؤدِ الى معرفه، ولا تقترن بالتزام ومسؤوليه، تبقى مجرد كلمات فارغه لا قيمه لها، مهما كان رنينها جميلا.

اضحى من الواجب اليوم اعاده التفكير بالوظيفة الاجتماعية للغة وبلاغتها، وان تتوقف الخطابات التي تعالج اعراض الامراض وليس اسبابها الحقيقية، وان تتوقف تماما عن البلاغة التي تبهر الاسماع، وتسكن الجراح بدلا من معالجتها، وان تستعيد البلاغة عافيتها وشجاعتها الاخلاقية والمهنية والإنسانية، وليس بهرجتها اللونية والصوتية، في وقت يهان فيه الانسان باسم القيم، وتبرر فيه السلطة باسم الله، لا يكفي ان نقول كلاما جميلا، فلابد ان نقول كلاما مسؤولا يعري الزيف، ويوقظ الوعي، ويمهد للتغيير، لا يسكن في افياء اللغة وبهرجها اللفظي، بل يتخطاها نحو صنع الحياة.

***

د. كريم الوائلي

في المثقف اليوم