قضايا
بتول فاروق: لكل واقعة حكم.. أم لكل ألف واقعة حكم؟

(تعدد الوقائع ووحدة الحكم الفقهي)
الأصل في الفقه الإسلامي أنّ لكل واقعة حكمها، أي أنّ الحكم الشرعي يُستنبط بناءً على خصوصيات الواقعة وظروفها وملابساتها (كما يفترض). لكن عند التطبيق العملي نرى أن الفقهاء كثيرًا ما يلجأون إلى تعميم حكم واحد على وقائع متعددة لا يجمعها سوى الاشتراك في الإسم أو الوصف اللفظي، من دون التمييز الكافي بين حيثياتها الاجتماعية والتاريخية (كما أرى ذلك، وطبعا رأيي قابل للخطأ) .
ويمكن ملاحظة ذلك كما يأتي:
1- وحدة الحكم بسبب الإشتراك اللفظي
يظهر هذا -مثلا - في باب النكاح: فالزوجة في النصوص القديمة كانت تعيش في سياق اجتماعي مختلف، حيث العبودية قائمة، والخدمة في البيوت تُؤدى من الإماء والعبيد، بينما الزوجة لها وظيفة اجتماعية محددة (الإنجاب، العلاقة العاطفية، السكن)، اليوم تغيّر السياق جذريًا، فلم تعد هناك إماء يخدمن في البيوت، وصارت الاعمال المنزلية ورعاية الأطفال مهام غير مدفوعة الأجر، تتحملها الزوجة المعاصرة. إضافة إلى ذلك، كثير من الزوجات يشاركن في سوق العمل، فيتحملن عبئًا مضاعفًا.
ومع ذلك ظلّ الحكم الفقهي ثابتًا: للزوج “القِوامة”، وللزوجة “الطاعة”، ولا نصّ صريح يعترف بعملها المنزلي كحق مالي أو امتياز إضافي، حين صار عملها لابديل عنه.
2- إشكالية الجمود الفقهي:
هذا التعميم يعني أنّ بعض الفقه التقليدي لم يُفرّق بين الزوجة في عصر العبودية حيث كانت خفيفة الأعباء المنزلية لوجود الإماء.و الزوجة المعاصرة التي تتحمل عبئًا أساسيًا في البيت وفي العمل العام.
لكن لأن اللفظ بقي نفسه "زوجة" انسحب عليه الحكم ذاته دون مراعاة لتغيّر الواقع. وهنا يظهر أن الفقه كما لو كان لم يلتزم بمبدئه الأولي (لكل واقعة حكم) بل اعتمد مبدأ آخر غير معلن: "لكل لفظ حكم"، مهما اختلفت الوقائع التي يقع عليها هذا اللفظ.
وعلى هذا فأن النتائج التي يمكن ان تترتب على ذلك:
- تُعامل المرأة في الفقه كما لو كانت كيانًا ثابتًا عبر العصور، بلا تغير في أدوارها الاجتماعية والاقتصادية.
- أن بقاء الحكم كما هو يعكس منطق الشكليّة الفقهية التي تقدّم اللفظ على الواقع.
- يترتب على ذلك نوع من الظلم: فالزوجة التي تعمل بلا مقابل داخل البيت لا تحصل على أي امتياز فقهي أو حقوق إضافية، لأن الحكم صيغ لواقع مغاير تمامًا.
ومثال آخر يمكن به معرفة الطريقة التي يعمل عليها الفقهاء هو مفهوم الربا المحرم وهو أخذ الزيادة في القرض،
و حين ظهر النظام المصرفي الحديث (البنوك والفوائد) قاس الفقهاء "الفائدة البنكية" على “ربا القرض القديم”، باعتبار أنّ اللفظ واحد (زيادة مشروطة على القرض).
ولم يتم التمييز بين السياقين، بل طبّقوا الحكم ذاته اعتمادًا على وحدة اللفظ "ربا" وتم تجاهل اختلاف الوظائف الاقتصادية والاجتماعية. فالربا القديم كان استغلالًا للفقراء الذين يأخذون القرض لغرض المعيشة، بينما الفائدة المصرفية الحديثة تدخل في إطار آليات التمويل والاستثمار.
ولذا ينبغي إعادة التفكير في:
1- إعادة تعريف الواقعة الفقهية (تشخيص الموضوعات) لا على أساس اللفظ (زوجة، عبد، أمة) بل على أساس طبيعة الأدوار والوظائف الاجتماعية.
2- فتح المجال لاجتهاد جديد يرى أنّ تغيّر الظروف يقتضي تغيّر الحكم أو على الأقل تعديل تطبيقه.
3- إدخال مفاهيم مثل العدالة، وتقويم العمل غير مدفوع الأجر في البناء الفقهي والذي لابديل عنه في الوقت الراهن لاعطاء أمتيازات معينة.
بهذا المعنى يمكن القول إنّ اغلبية الفقهاء لم يلتزموا بمبدأ " لكل واقعة حكم " بل تعاملوا وكأن لكل ألف واقعة حكم واحد، إذا تشابهت بالاسم، حتى لو اختلفت بالجوهر.
***
د. بتول فاروق - النجف
١٢/ ٩ / ٢٠٢٥