قضايا

محمد البطاط: موقف كارل ماركس من الحركة الصهيونية

مفكرون يهود ضد الصهيونية (2)

بعد أن تكلمنا في الحلقة الأولى من هذه السلسلة عن باروخ اسبينوزا، نحاول الآن تسليط الضوء على موقف المفكر الألماني كارل ماركس (1818-1883م) من الحركة الصهيونية، وكما هو معلوم أن ماركس في تنظيراته لما يُعرف بالفلسفة الماركسية كان ينظر الى جوهرية الصراع الطبقي وأُسيته في المسار التأريخي فيما يُعبر عنه بــــ(المادية التأريخية)، وربط الدين بوصفه أحد تعبيرات البنية الفوقية، والتي بدورها تنتظم وفق علاقتها بالبنية التحتية، ومن ثم أن أي مقاربة تهدف الى بيان موقفه من الدين، أي دين كان، ستكون نتيجتها منسجمة مع موقفه السلبي من المعتقدات الدينية التي هي أدوات هيمنة يمارسها المستغِل-بكسر الغين- على المستغَل-بفتحها-، مع تفاصيل وتضاعيف متوشجة باليهودية والصهيونية سنتطرق لها بعد مرور مختزل على حياته.

ولد كارل ماركس في مدينة ترير في ألمانيا لأسرة يهودية، إلا أن والده إعتنق المسيحية البروتستانتية لأسباب سياسية وإجتماعية، وهي الأسباب التي تتعلق بالمسألة اليهودية، وإشكالية إندماج اليهود في المجتمع الأوربي المسيحي ديانةً، والساعي إلى بناٍء ليبرالي ديمقراطي سياسةً وإقتصاداً وإجتماعاً، مما كان سبّب إشكالية كبيرة داخل المجتمعات الأوربية في وجود جماعة دينية عصية على الإندماج، وقد درس ماركس الفلسفة والحقوق في جامعات بون وبرلين ويينا، ليحصل على الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة الأخيرة، وإشتغل في الصحافة الراديكالية في ألمانيا، وبسبب مواقفه وآرائه تعرض للنفي بإستمرار، وتعرف على رفيق دربه فردريك أنجلز (1820-1895م) في باريس عام 1844م، ليشكلا ثنائياً في مشروع التنظير للثورة العمالية، وكتابة البيان الشيوعي عام 1848م، عبر دعوة الطبقة البروليتارية في العالم للإتحاد وتنسيق الجهود في مواجهة رأسمالية الطبقة البرجوزاية سعياُ وراء تحقيق الإشتراكية في مسار الترسيمة التأريخية التي آمنا بها، والتي نهايتها في الشيوعية المُعبرة عن المحطة الأخيرة لقطار التأريخ الانساني.

كان الفقر ملازماً لكارل ماركس بشكل مثير، الأمر الذي قاده الى الاعتماد المالي، ولمدة ليست بالقليلة، على دعم صديقه أنجلز، وقد كتب عدداً كبيراً من المؤلفات من أهمها (رأس المال) الذي حلل فيه طبيعة الرأسمالية وعلاقتها بفائض القيمة والأغتراب الطبقي وغيرها، نشر المجلد الأول منه في حياته، ليكمل أنجلز المجلدين الثاني والثالث لاحقاً بناءٍ على مخطوطاته (1)، وثمة مقولة مشهورة توضع في بعض الطبعات لكتبا رأس المال تنص على مفارقة حاله، تقول (لقد رحل صاحب رأس المال، ولم يكن يملك رأس مالٍ لشراء علبة سجائر)!

وفيما يتعلق بموقفه من الحركة الصهيونية، بالإمكان تلمسّه بوضوح عبر كتابه (حول المسألة اليهودية)، وهو في الأصل رد على كتاب (المسألة اليهودية) لبرونو باور (1809-1882م) المنشور عام 1843م، فجاء رد ماركس على طروحات باور الشاب الهيغلي المندفع بقوة إتجاه الدولة العلمانية التي لا مكان فيها للدين، إذ ذهب باور إلى أن الحرية السياسة والدولة الديمقراطية لا يمكن أن تتماشى مع الفكر الديني اليهودي، ومن ثم على اليهود أن يتخلوا عن هويتهم الدينية، وينخرطوا داخل دولة ليبرالية علمانية تتقوم بفكر حقوق الانسان والمساواة.

وقد رفض ماركسُ رأي باور القائل إن طبيعة الديانة اليهودية تمنع اليهود من الاندماج. وبدلاً من ذلك، هاجم ماركس صياغة باور للمسألة نفسها، أي سؤال: هل يمكن لليهود أن يصبحوا محرَّرين سياسياً؟، معتبراً أن هذه الصياغة تُخفي في جوهرها طبيعة التحرر السياسي نفسه، مما جعل ماركس يستغل فرضية باور كفرصة لتحليل الحقوق الليبرالية من منظوره، ورأى أن باور أخطأ حين افترض أن الدولة العلمانية تعني أن الدين سيتوقف عن لعب دور بارز في الحياة الاجتماعية، واستشهد ماركس بالولايات المتحدة مثالاً على ذلك، إذ لا توجد ديانة رسمية للدولة، ومع ذلك ظل الدين واسع الانتشار، ومن وجهة نظر ماركس، لم تكن الدولة العلمانية مناقضة للدين، بل كانت تفترض وجوده، فإلغاء الشروط الدينية أو الملكية للحصول على المواطنة لم يكن يعني إلغاء الدين أو الملكية، بل على العكس، كان يطبع كليهما بطابع طبيعي، ويقدّم طريقة للتعامل مع الأفراد بمعزل عنهما.

وبعبارة أخرى، يعتقد ماركس أن جوهر المشكلة فيما يتعلق بالمسألة اليهودية لا يتعلق بذاتية الديانة اليهودية، بقدر تعلقها بواقع الليبرالية الغربية نفسها، أي في أُس التحرر في المجتمعات الأوربية، فلن تحل المشكلة في تخلي اليهود عن اليهودية، بما هي دين، بل بطبيعة التحرر الذي تسعى اليه الليبرالية في المجتمعات المسيطرة عليها، كما أنها تتعلق بالجماعة اليهودية الدنيوية وسلوكهم الأناني غير الأخلاقي، الأمر الذي دفعه الى التمييز بين نوعين من التحرر(2):

التحرر السياسي: تبرز معالم هذا التحرر بشكل واضح من خلال تحرر الدولة من العوائق التي تقف في طريقها، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة تحرر الانسان بالمعنى الدقيق للتحرر، وإنما ندخل في حالةٍ من الإحلال أو الاستعاضة، فيتحرر الفرد السياسي، وفي الوقت ذاته، يُصار الى تدمير وطمس الانسان ووجوده، أي أنها حرية شكلية في نطاقها السياسي، إذ أن تحرير هذا الفرد أو ذلك، مع التأكيد هنا على الفردية، لا يعني بالضرورة تحرير الانسان، والسبب في الرؤية الماركسية أن الفرد سيبقى أداةٍ خاضعة لسيطرة وسلطة الدولة.

التحرر الانساني: التحرر الحقيقي الذي يكون الانسان فيه حراً في حقيقته، منعتقاً من الاغلال والقيود كافة، ومن هيمنة الدولة وسيطرة التي تخضعه بشتى الوسائل داخل إرادة القهر الرأسمالية/الليبرالية، وهذا ما لم يتحقق في الدولة الليبرالية الغربية، فهل أسهم التحرر السياسي الى إقرار حالةٍ من المساواة الاقتصادية؟ بالتأكيد كلا، ولم يفض إلى الاهتمام بالجانب الاقتصادي على عين الوتيرة في الاهتمام بالجانب السياسي، مما يعني ان التحرر السياسي في جوهره لم يكن تعبيراً عن التحرر الإنساني.

من هنا يهدف ماركس الى الوصول الى نتيجة أن الحرية المدنية والسياسية لليهود، والتخلي عن اليهودية تبعاً لدعوة باور، ليست حلاً جذرياً للمسألة اليهودية، بل هو في التحرر الانساني الكامل، وعلينا أن لا نغادر هنا الثيمة المركزية التي يستند إليها ماركس ورفاقه في النظر الى الدين، أي دين، بوصفه من تعبيرات البنية الفوقية، ومن ثم طبيعة علاقتها الإشكالية مع البينة التحتية، وهم ينظرون إلى الدين بوصفه واحداً من نتاجات الصراع الطبقي في مسار المادية التأريخية، وبعبارة أخرى، أن الرؤية الماركسية تبقى ناظرة الى الدين على أنه واحدة من عقبات التحرر أمام الوعي الطبقي المنشور للبروليتارية العالمية في مسارها نحو الاشتراكية، سواء أكان هذا الدين يهودية أم سواها.

إلا أن ماركس يعطي خصوصية في موقفه من الصهيونية من خلال تمييز آخر بين اليهودية كحالة مثالية مجردة لليهودي، وبين اليهودية الدنيوية الواقعية، إذ يرى أن اليهود الواقعيين داخل المجتمع الغربي، أي يهود الحياة اليومية العادية، يعملون على إستغلال دينهم كغطاء لتحقيق الاهداف الدنيوية المقيتة، لذا يتساءل (ما هو العمق الدنيوي لليهودية؟ أنه الحاجة العملية، المنفعة الشخصية، وما هو الطقس الدنيوي لليهودي؟ إنه التجارة غير المشروعة، وما هو الإله الدنيوي لليهودي؟ إنه المال!)(3) ، هكذا يعمد ماركس الى بيان الحقيقة الواقعية للمجتمع اليهودي، وآليات تفكيره القائمة على المنفعة الشخصية والأنانية والتدميرية، وبغض النظر عن إختلافنا معه في التمييز بين الحالة المثالية اليهودية كدين، والواقعية الدنيوية لليهود، إذ نعتقد أن المتن اليهودي يشترك في هذه الطبيعة الاستغلالية التي يمارسها اليهود إتجاه المجتمعات التي يعيشون فيها، فإن ماركس يريد أن يؤشر حقيقة أن التجارة غير المشروعة التي يمارسها اليهود، والعقلية المادية الانتهازية التي يعملون وفقها، ما دامت مهيمنة على ميكانزمات تفكيرهم لن يتمكنوا من التحرر، ومن ثم لا يستطيعون المساهمة في التحرر الانساني بشكل عام.

إذ أن المسألة اليهودية تكشف عن فساد المجتمع البرجوازي. ويتهم ماركس اليهودية بمسؤوليتها -في آخر المطاف- عن استلاب الإنسان لأنها نشرت تصورا عن العلاقة مع العالم تقوم على الحاجة الأنانية والتجارة غير المشروعة، وإذا نجحت اليهودية في الاستمرارية حتى اليوم فسبب ذلك هو أن التّهوّد صار دنيوياً ومنتشراً في المجتمع البرجوازي الذي تبنّى الروح العملية المميزة لليهود، فهؤلاء جعلوا من المال أسمى هدف، ولوثوا ذهنية الشعوب الأوروبية بذلك. يقول ماركس (لقد تحرر اليهودي بطريقة يهودية، ولم يتم ذلك بتحوله إلى سيّد للسوق المالية، ولكنه تمّ لأن بفضله ومن خلاله تحول المال إلى قوة عالمية، وتحولت الروح العملية اليهودية إلى روح عملية للشعوب المسيحية. لقد تحرر اليهود بتحول المسيحيين إلى يهود)

لقد صار المجتمع كله اليوم في خدمة إله المال، هذا الإله الذي يحول كل شيء إلى سلعة. ومن الناحية العملية، يُعلّم ُ هذا الدين الدنيوي احتقار الطبيعة والحياة والعقل والفن والتاريخ والإنسانية كما أنه يختزل كل شيء في الملكية الخاصة.(4).

وعلى الرغم من التحليل الذي يرى أن ماركس هنا لم يكن نقده لليهود كيهود تحديداً، وإنما كرؤية نفعية داخل المجتمع الرأسمالي، وهذا لا يخلو من صحة، إلا أن علينا أن لا نغفل أنه تكلم في سياق الحديث عن المسألة اليهودية، وإشكالية الاندماج لهذه الجامعة داخل المجتمعات الغربية، وهو يريد أن يوصلنا الى ان حل المسألة اليهودية يكمن في طرفي المعادلة، من جهة في إعادة تعريف مفهوم التحرر، ونقله من الاختزال في التحرر المدني السياسي الى التحرر الانساني الشامل من جهة، وفي ضرورة مغادرة العقلية المادية النفعية/الأنانية التي توصم الشخصية اليهودية، والتي يربطها بنمط بحالة العقل الرأسمالي الذي يفكر بهذه الذهنية.

وهكذا يتضح أن ماركس مان رافضاً للمبدأ الصهيوني الداعي الى إقامة دولة خاصة لليهود في فلسطين، ولذلك وقف على الضد من مجايله (5) الألماني موسس هس (1812-1875م)، وشريكه في درب الاشتراكية، إذ كتب هس كتاب (روما والقدس) عام 1862م، دعا فيه الى ضرورة إنشاء وطن لليهود في فلسطين، وعلى عكس التصور الاقتصادي الطبقي للثورة التحررية الإنسانية لدى ماركس وأنجلز، رأي هس أن المرحلة القومية ضرورية في كل البلدان من أجل الانتقال إلى المجتمع الاشتراكي، وقد اعتمد نموذج النهضة الإيطالية مثالًا لما سماه بـ”الإنبعاث اليهودي” المنشود، وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يمكن اعتباره الوثيقة الأولى للمشروع الصهيوني، إلا أنه لم ينل اهتمامًا يذكر في الأوساط اليهودية، وإن كان هرتزل في كتابه “دولة اليهود” الصادر سنة 1896 أشاد به، واعتبر أنه قال كل “ما يتعين قوله"(6).

رفض ماركس دعوة هس، ومبرراتها، عادّاً أنها تقوم على مبدأ مغاير للطريق التحرري صوب الاشتراكي، ونكوصاُ صوب العودة الى الرؤية المنغلقة القائمة على البحث عن حلول عرقية للمسألة اليهودية، فضلاً عن البعد القومي الخصوصي الذي كان موقف ماركس على الضد منه، إذ ينطلق من البعد العالمي في التفكير والموقف.

***

د. محمد هاشم البطاط

........................

المصادر:

(1) للمزيد عن حياة كارل ماركس وتفاصيلها، ينظر:

David McLelln, Karl marx; A Biography, 4th edition, Palgrave Macmillan 2006,

(2) Karl Marx, In the Jewish Question, in; Early Writings, translated by: Rodney Livingstone and Gregor Benton, Penguin Classic, 1992, p211-241.

(3) Karl Marx, In the Jewish Question, op.cit. p218.

(4) محمد الهلالي، كارل ماركس: حول المسألة اليهودية، على الانترنت: www. https://hadfnews.ps

(5) ثمة تضارب في الأقوال بين من يرى أن ماركس كان أستاذاً لهس، ومن يرى العكس، إلا أن الثابت هو أن كلاهما إنطلقا من الفكر الهيغلي بنزوع إشتراكي، وإختلفا في طريق الاشتراكية لكل منهما، ونقد كل منهما الاخر، ومن الجدير بالذكر أن هس تحول لاحقاً الى المبنى الفكر الصهيوني، وصار من دعاته البارزين.

(6) السيد ولد أباه، ماركس ونموذج التحرر الإجتماعي، على الانترنت: www. https://ardd-jo.org/blogs

 

في المثقف اليوم