قضايا
تركي لحسن: التسوّل السيبراني

أصبحت القنوات الشخصية على اليوتيوب والتيك توك العارضة لكل أنواع الهرج والمرج عصية على التعداد، فهي تنبت بشكل مفرط كالعشب الضار دون سقي أو رعاية. كانت في البداية وسيلة لكسر احتكار وسائل الأعلام، العمومية والخاصة، للوصول للجمهور الواسع، ثم تحولت بعد ذلك لجيش من "المؤثرين" المتسولين الذين يتوسلون، بأساليب وضيعة، الجمهور الواسع ليشاهد ويروج تفاهاتهم وأكاذيبهم.
لا يجب أن نخلط بين القنوات المحترمة التي تعرض محتويات هادفة ومفيدة، من دروس ومحاضرات، وندوات ومناظرات، ومختلف المواضيع القيمة في جميع المجالات، وبين من يسمون أنفسهم مؤثرين، يعرضون كل شيء ولا يعرضون شيئاً، يتحدثون عن يومياتهم المملة، يتباهون بما يأكلون ويلبسون، يتكلمون عن علاقاتهم الحميمية بكل وقاحة وقلة أدب، يسبّون ويشتمون، يرقصون ويتمايلون، كل هذا ليضاعفوا من أعداد مشاهدة تفاهاتهم وسخافاتهم، وليتصدق عليهم أرباب هذه الشبكات السيبرانية، بنصيب زهيد مما يجنونه من مليارات طائلة نظير تشغيلهم لهذا الحشد من المتسوّلين.
كان التسوّل، في زمن مضى، ضرورة يلجأ إليها المساكين والمحتاجين وقليلي الحيلة لسدّ حاجاتهم اليومية، ثم تحوّل إلى حرفة للكسالى والمتواكلين وحيلة للمحتالين، أما الآن فأصبح مصدر رزق للحمقى والتافهين. كان المتسول الكلاسيكي يستحي من الناس ويشعر بانكسار ومذلة وهو يتلقى عطاءات المحسنين، الآن أصبح المتسول السيبراني يتباهى بيده السفلى، ويفتخر بكثرة محسنيه، الذين تحولوا بقدرة قادر إلى متابعين مسحورين. كان المتسوّل المضطّر يختار ناصية في شارع مكتظ بالمارة فينشر منديله كيما يحظى بصدقات ثلة منهم، الآن صار المتسوّل لا يخرج من بيته، استبدل المنديل بهاتف ذكي، ولا يحتاج إلى ناصية في شارع مكتظ فالعالم كله اصبح بين يديه.
كثرت حيل المتسوّلين الجدد فمنهم من ينشر الدجل، ومنهم من يروج للرذيلة والفساد الأخلاقي، ومنهم من يقص يومياته المملة، ومنهم من يلعب على وتر الغرائز الجنسية، ومنهم من يدّعي محاربة الفساد وكشف الفاسدين لإغراء المتعطشين للفضائح وجذب أولئك الفاسدين الذين يتبنون منطق "إذا عمّت خفّت". لا يتطلب احتراف هذه المهنة الوضيعة سوى القدرة على كثرة الكلام وامتلاك الجرأة لقول ما يتحفظ الناس على قوله أمام الملأ، ثم الوقاحة وقلة الأدب والتشّدق بالألفاظ القبيحة والبذيئة.
كلّ ما أقوله لا يخفى على أحد، ولا أريد أن أُذّكر بمساوئ التطور التكنولوجي، فهو مجال له ما له وعليه ما عليه، لكنني أريد أن ألفت نظر القراء الأعزاء إلى الخطر الذي يتربص بالأجيال القادمة جرّاء الانتشار المهول لهذه الظاهرة الاجتماعية المرَضية. فقد كُنّا منذ مدة نخشى من انتشار ظاهرة التسوّل واتخاذها كحرفة من قبل بعض المتواكلين، بدل العمل والكدّ والاجتهاد، لكن بعد أن ظهر المتسوّلون الجدد وتضاعفت أعدادهم بشكل رهيب، أصبحنا نخشى من تبعات هذا التسوّل غير المتوقعة. لا يكمن خطر هذه الظاهرة فيما يجنيه ملاك هذه المواقع من ثروات طائلة أو فيما ينفقونها، بقدر ما يكمن في التسطيح والتفاهة اللذان اصبحا سمة من سمات هذا العصر، كما في الانحلال الأخلاقي والانحراف الاجتماعي والسقوط في هاوية الجريمة وتعاطي المخدرات.
لم يُطلق على هؤلاء المتسوّلين لقب المؤثرين إلا بعد ما لاحظ الجميع نتائج تفاهاتهم وسذاجتهم، ولاحظ العقلاء آثار سمومهم على الجمهور المتابع لهم من أطفال وبالغين. فمنذ أن انتشرت وسائط التواصل الاجتماعي وفُتح المجال لهذه الفئة من التافهين، زادت نسب الجرائم وتعاطي المخدرات، وسهل الترويج لكل أنواع الانحرافات الاجتماعية، وأصبح التقليل من شأن الضوابط الأخلاقية مجال تخصص هؤلاء "المؤثرين".
لماذا يؤثر هؤلاء المتسوّلون في ملايين المتابعين، ألأنهم متفوقون ومتميزون؟ أم لأنهم يستخدمون تقنيات سيكولوجية لجذب المشاهدين؟ في اعتقادي لا هذا ولا ذاك، فقط لأن المجتمعات الاستهلاكية لا تبحث إلا على الترف والمتعة من خلال الاستهلاك المفرط. هذا ما دفع ملاك مواقع التواصل الاجتماعي لفتح الباب على مصراعيه واتاحت الفرصة لكل من هبّ ودبّ ليُفرغ روثه في عقول المنقادين من المشاهدين، من خلال ما يعرضونه من تفاهات وحماقات، ثم لأن جل مواضيعهم طابوهات ومحرمات تجذب القصر والمراهقين وفقا لقانون: كل ممنوع مرغوب.
كنا في عهد سابق نحشى على أبنائنا من جماعة الانتماء أو كما يقال بالدارجة "الشِّلة"، التي كنا نعرف أفرادها كما نعرف ذويهم، الآن أصبحت "الشِّلة" رقيمة تتكتل في جماعات لا يحدّ تعاظمها حدود جغرافية ولا ضوابط قانونية ولا شرائع أخلاقية. أصبحت جماعة الانتماء هذه خليط من الأطفال التائهين، والمجرمين المتنكرين، والمنحرفين والشواذ، والجواسيس المدربين، والمتطرفين الإرهابيين، كلّ هذه الدواب والهوام ظهرت للوجود بفعل تأثير المؤثرين وما ينفثونه من سموم في عقول الأطفال والحمقى والمغفلين من الكبار البالغين.
كان الناس في السابق يتأثرون بالمُجِّد والمجتهد، بالمتفوق والناجح، بالمتمسّك بالأخلاق والمنضبط اجتماعيا، فجأة انقلبت الموازين واختّل سلم القيم، فأصبح المنحرفون أخلاقيا، والمرضى نفسيا، هم المثل الأعلى للمتابعين والمتابعات والمعجبين والمعجبات. فالانضباط الأخلاقي أصبح سلعة نادرة في زمن صارت فيه الوقاحة وقلّة الأدب معياران للشهرة ووسيلتين للاسترزاق وكسب المال .
***
د. تركي لحسن