قضايا

محمد سيف: الافتراض.. فخّ استجابة الدماغ

في المتوسط العام يستهلك الدماغ البشري ما نسبته 20% من طاقة الجسم رغم أنه لا يشكل سوى حوالي 2٪ فقط من وزن الجسم! ولذلك فأدمغتنا كسولة تميل إلى توفير الطاقة، ولهذا التوفير مظاهر عدّة، وهي الضريبة التي ندفع فاتورتها بدون أن ننتبه، فمن تطبيقات تلك المظاهر في حياتنا اليومية: الميل للافتراض في السياق التداولي، إذْ تلوذ أدمغتنا بالافتراض بما هو الخيار الأسهل والأوفر! وترتضيه بديلا عن تجشّم عناء التفتيش عبر الوسائل المتاحة عن حقيقة تصوّر الآخر كما هو، حدّ المستطاع.

في خضمّ حديثٍ ما يسأل المرءُ أخاه عمّا إذا كان مناسبا أن يحتسيا القهوة سويا ذات مساء، فيعتذر أخوه إليه من عدم تمكنه، ثم يتفاجأ بأنه نشر على أحد حساباته في مواقع التواصل الاجتماعي صورة تجمعه بصديقه، فيفترض الأخ أنّه قدّم صاحبه عليه، وما درى أنه ارتباط سابق على دعوته هو، فيلغي - نتيجة افتراضه - رحلة كانت مقررة مع أخيه، لتبتدئ سلسلة من العداوة والشحناء المتبادلة، وأخرى تدعوها زميلتها للانضمام إلى فريق أحد مشاريع الجامعة، فتعتذر إليها من عدم تمكّنها، فتفترض زميلتها أنّ الخيلاء والعجرفة هما سبب ذلك، ثم يطغى على رسائلها لزميلتها حِسّ البرود والجفاء، فتنساق الأخرى إلى هذا الجو المشحون الذي ابتدأ بافتراض! ولو أنها التمست لها عذرا أو بحثت فلربما وجدتْ أنها تمر بظروف قاسية حالتْ دون الانضمام الذي كانت تتوق إليه بشدة في وجدانها.

وبما أن الافتراض عملية دماغية سريعة فهو منخفض في تكلفة استهلاك الطاقة، أما البحث والتأكد والحرص على الدقة، وتقييم القرائن، والتمحيص والتمهّل، والتموضع في زاوية الموضوعية، فهذه كلها عمليات دماغية تستهلك كمية هائلة من الطاقة، فكيف والحال أن يومنا الاعتيادي غارق في السياق التداولي، حيث نتعاطى في المتوسط مع أناسيّ كُثُر خلال اليوم الواحد، فلك أنْ تتخيّل كمّ الطاقة التي تستنفدها أدمغتنا؛ الأمر الذي يرهقها أيّما إرهاق؛ ومن أجل ذلك فالدماغ يستمرئ الافتراض على حساب إطالة النظر في التثبّت وصرامة التبيّن.

ولعل الافتراض لوحده حين تَعْمد إليه أدمغتنا ليس بذي بال لولا أنه متبوعٌ عادةً بِردّات الفعل، فالمصيبة العظمى حين ينهض الافتراض إِزميلًا ينحت استجابتنا تجاه ممارسات الآخرين وكلماتهم، فالافتراض في جوهره هو تشويه مقنَّع لسياقِ ما يصدر عن الآخر، وحين نستجيب للافتراض بما هو لباس تلقيه أدمغتنا على صادرات الآخرين من عبارات وسلوكيات، فلسنا نُجري بذلك في حقيقة الأمر إلا استجابة مجحفة لأمر ليس له صلة بالآخر إطلاقا، فإننا بالافتراض نُقيم محاكاة ذهنية لا تشبه الآخر، ونتعاطى معها عِوضا عن التعاطي مع منتجات ذات الآخر! فتغدو ردود أفعالنا معارك مع أشباح وهمية، وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل - للأسف - يتعدّاه إلى دفع الآخر بالرد على ردة فعلنا التي كانت في المقام الأول ردا لوجهة غير صحيحة! فندخل في متاهة من التصادم والانخراط في مهاترات سخيفة تفسد علاقات زهقت سِنِيُّ أعمارنا لإقامتها.

ومما يزيد الافتراض سطوة أنه يجيد الالتفات على العقل، إذْ ما إن يرتمي في أحضانه الدماغ حتى يبحث عن جميع القرائن التي تدعم مقالته؛ ليبدو أمام صاحبه أنه صوت التعقّل لا التسرّع، ونداء الحكمة لا الطيش، وهو لا يعدو أن يكون تبريرات باردة يغلف بها الدماغ استرواحه إلى الافتراض ويجمّل قبح تهاونه وفتوره، فيظن الواحد فينا أنه استنتاج نابع من قرائن واقعية وأدلة جلية، وأنّ التصرف المستمَدّ من قاعدة كهذه لَهو تصرف يُنبِئ عن حكمة بالغة ورأي حصيف! هذا إذا كنّا قد اقتطعنا جزءا من الوقت أساسا بتوجيه أصابع الاتهام إلى السيد الوَقور الافتراض!

إنّ فهم طريقة عمل أدمغتنا تجعلنا متيقظين للتوقيت المناسب لكبح جماحه وأخذ زمام القيادة الواعية بدلا من وضعية (Autopilot) القيادة الآلية، وبما أنّ الافتراض يُولَد في اللحظة التي نتلقى فيها من الآخر تصرفاته أو كلامه، فإنه لِزامًا علينا وقتئذٍ أن نراقب أنفسنا بأسئلة حازمة لا هَوادة فيها: هل انجررنا إلى افتراض متسرّع؟ ما هي القرائن التي تنهض نِدّا لافتراضنا؟ هل ثمّة افتراضات محتمَلة أخرى، وماقرائنها الداعمة؟ ما هي المعطيات المتوفرة للمشهد؟ ما هو السياق السابق على ردة فعل الآخر؟ هل هناك ما يتوجّب علينا فعله للتأكد؟ ما هي السبل المشروعة المتاحة للوقوف على حقيقة الأمر؟ كيف يمكننا أن نرى المشهد من زاوية الطرف الآخر؟ وبالتعبير الإنجليزي (Put yourself in someone else's shoes) أي: ضعْ نفسك مكان الطرف الآخر، فطرحُ هذه الأسئلة ومثيلاتها كفيلٌ بِحَثّ أدمغتنا على التبرؤ من الافتراض أو على الأقل حقنه بالوهَن؛ حتى يعجز عن دفعنا إلى مستنقع ردة فعل غير مسؤولة واستجابة غير مدروسة، والتي قد تهدم بناءً شيّدته السنين، وفي أدبنا العربي نجد الحكمة السائرة: ومعظم النار من مستصغر الشررِ.

الدُربة المستمرة هي السرّ في ترويض أدمغتنا، حتى تصبح عملية الفهم الموضوعي لردّات فعل الآخرين تلقائية لا يحتاج الدماغ فيها إلى استدعاء طاقة كبيرة للاضطلاع بها، فالتدريب لصقل أي مهارة ذهنية هو في جوهره نقل الممارسة من حقل الوعي إلى حقل اللاواعي، تماما كمهارة القيادة، ففي البدايات تتشظّى أذهاننا إلى سبعين قطعة، كل قطعة تطارد تفصيلا ما من دواسات الوقود والمكابح، مرورا بالانتباه للمرايا الجانبية والأمامية والخلفية، إلى إمساك المقود باليدين، فيغدو كيلومتر واحد بمثابة رحلة مضنية للغاية، في حين إنه بعد مرور فترة كافية على الممارسة، تجد أنك تقطع مائة كيلو وأكثر وأنت شارد البال تماما، متسائلا: متى قطعت كل هذه المسافة؟! وما ذلك إلا أنّ المهارة قد تموضعت في المستوى اللاواعي من المعالجة الدماغية، التي من سماتها التلقائية، متجاوزة تدخّل المستوى الواعي، وقسْ عليه كل المهارات، البدنية منها والذهنية.

وأجدني مضطرا لألملم أطراف طرحي بالالتفات إلى دقيقة مهمة؛ حتى لا يأخذ بالقارئ الشَّطط في فهم مرادي، وهي أنّ ما ذكرته لا يعني بحال تعطيل التحليل الافتراضي بالكليّة، فهذا ضربٌ من السذاجة، وأتعس الناس من مشى بينهم بحسن الظن على الدوام، وفي البشر خبيثوا الطوية وسيئوا الطباع كما فيهم الأسوياء الأنقياء، وإنما غايتي من الطرح هو أن تكون افتراضاتنا متّسمة بالموضوعية قدر الإمكان - حيث إن الوقوف على حقيقة الأمر بالضبط أقرب للوهم منه للواقع - وألّا تكون محض افتراضات متعجلة منبتّة عن معطيات حقيقية وفهم موضوعي، فنترك الحبل على غاربها لتحدّد معالم استجابتنا التداولية مع دوائر الاحتكاك، القريبة منها والبعيدة، كما أنني لا أرمي إلى أن يكرّس الواحد منا جُلّ اهتمامه في تفاصيلِ تفاصيل ما يصدر من الآخرين، فدون ذلك خرط القتاد! من ناحية، كما أنه يستنزف طاقتنا على حساب ما هو أولى، من ناحية أخرى، كما فصّلته في مقال سابق لي بعنوان: (الانتباه يقتل الاحتمالات) ففي كثير من المناسبات يكون التجاهل والتجاوز إزاء تصرفات الغير أسلم لراحة البال وألصق بالبصيرة وأدعى للعمل، ومع الافتراض الموضوعي أو التجاهل ينبغي لنا عدم إغفال اتخاذ التدابير الضرورية التي تضمن عدم تعدي الآخرين علينا أو استغلالنا، في حالة أثبت الآخر أنه غير مستحق لافتراضنا الموضوعي أو تجاهلنا الإنساني.

***

محمـــد سيـــف – باحث من سلطنة عمان

في المثقف اليوم