قراءة في كتاب
مصطفى غلمان: تأملات في كتاب "من فلسطين إلى الفلسطينزم

قول في الوعي والمعنى" للدكتور إياد البرغوثي
الفلسطينزم" مقابل "الصهيونية".. انتصار الأيديولوجيا أم تقعرها؟
***
تقديم: في مسار لا يخرج عن قناعات المفكر الفلسطيني الدكتور إياد البرغوثي، تنجلي سوسيولوجيا "الفلسطينزم"، ببعدها التاريخي والثقافي والسياسي، لتزيل الغشاوة عن الفوارق الكبرى التي يعمد الإعلام المضاد إلى اختزالها في الأقنومة الخطابية العقائدية والطقوسية المتآلفة والمنظومة الصهيوأمريكية، حيث ترتحل الذاكرة بوثوقية وتعزيز هوية، إلى أبعد من تفكيك الظاهرة الاستعمارية الغربية، وتوكيلاتها المستتبعة لمعنى "الكسر الحضاري" و "التأليب المبيت" ضد الحق الفلسطيني وتاريخيته وشرعيته واستنهاضه المتواصل للحق في المقاومة والمواجهة الحاسمة.
يأتي كتاب "من فلسطين إلى الفلسطينزم – قول في الوعي والمعنى" للدكتور إياد البرغوثي، ليعيد إثارة أسئلة الوجود الفلسطيني، حتمياته المستقطعة على خرائطية عالمية منهكة ومخادعة، آثارها في الفكر الإنساني وضميره العالق في مصائد الأمبريالية ونظام الغاب الراهن.
تستعيد فلسطين في مؤلف البرغوثي الجديد، بعضا من تحررات فقهنا المعاصر المتواري، حيث يتم صياغة نظام عالمي، على مقاس ملوك الحروب ووكلائهم، تحت نير اندلاق القطبية الواحدة، معززة بكل ترسانات العقل البشري وماكيناتها المصطنعة، دون أن يحيد المؤلف عن تأويل "أخلاقية غزة" في الحدود التي لا تتقاطع مع المعرفة بالمجال والإنسان، وظرفيات المجابهة (طوفان الأقصى)، وخلفياتها ورمزيتها في الهوية الفلسطينية والصيرورة البشرية.
فإذا كان "ضياع فلسطين أفقد الشرق أية إمكانية لتجسيد مشروعه بشكل طبيعي، وجعل إنشاء إسرائيل مكان فلسطين الإمكانية متوفرة أمام الغرب لإلحاق بلدان الشرق في مشاريع أخرى غير مشروعها، هي بمعنى أن وجود إسرائيل كرأس حربة للمشروع الصهيوني والإمبريالي الغربي، وضع الأساس لصهينة المنطقة"، فإن الدواعي الاستراتيجية للهيمنة إياها، يشيح عن الأهمية المركزية للمشروع الصهيوني إياه، متاخما للاستمرار في الهيمنة الغربية على الشرق، ويجعل من محورية القضية الفلسطينية، أحد أهم نواقصنا كعرب، خصوصا على مستوى "الوعي الاستراتيجي"، الذي وضع له البرغوثي إطار استدلاليا لا محيد عنه، حيث يلتقي هذا "الفهم الجيوسراتيجي لفلسطين وإسرائيل، كونه منطلقا للتعامل مع القضية الفلسطينية وللمواقف منها..".
الحالة الإسرائيلية.. إنها تخلق شروط نفيها
لا ينزاح الدكتور البرغوثي، عن وضع مقدمات نظريته في فلسطين، في العقل العربي ووجدانه، كما في قلب الأمة وضميرها اليقظ، دون أن يحيد عن تقاطعات ذلك مع الأنظمة المتعامية ووظائفها المشبوهة في إقبار هذا العقل وذاك الضمير، متمثلا بالموقع الأول للنضال الداخلي الفلسطيني، والذي خص له فصلا كاملا أسماه، "فلسطين.. بين الدولة والقضية"، أثار فيه جملة من القضايا والإشكاليات التي تتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، والديمغرافية السياسية للفسطينيين، والوحدة الوطنية الفلسطينية، ومسألة حل الدولتين..
"الحالة الإسرائيلية" لم تغب عن المؤلف، فقد أدرج لها فصلا يوازي في إقامة والامتداد أسئلة الكتاب وعناصره الجوهرية، والتي من أهم تعبيراتها، "الأخلاقية الإسرائيلية" وتوحشها الداعر ولا حدودية نظامها العنصري والتوسعي. لكن، بإزاء هذا التوصيف المكارتي، تنبني نتائج خارج المعقول الاستقبالي للظاهرة البشرية برمتها، حيث لا يمانع البرغوثي، في وضع علامات لخلق شروط النفي لدى كيان لا يستيقظ من الدم، بكل الآثام والآلام والإثخان في القتل والتهجير القسري والإحراق...
وفي عنوان بليغ أسماه البرغوثي "إسرائيل تخلق شروط نفيها"، تنبري الحالة الإسرائيلية وهي تمشي على بطنها مكشوفة ومثلومة: " ليس الإرهاب مستجدا عند إسرائيل، لكن ما ترتكبه من جرائم وبطش فيما يجري الآن من حرب على غزة، بلغ دروة اللامعقول. إنه حضور مكثف لجنون إسرائيلي خاص. فلم تعد إبادة الفلسطينيين "متطلبا" لدفاع إسرائيل عن نفسها، كما قد يفعل المجرمون "العاديون"، إنما واجب ديني "يتقربون به من الله" كما يقول حاخاماتها. إلى أن يقول "وصلت إسرائيل نقطة اللاعودة في لا معقوليتها. إنها دولة مريضة نفسيا، وصلت بها الغطرسة حدا يجعلها تستخف بالعالم وبالمنطق وبالقيم ..".
لا يستثني البرغوثي، أحدا مما يتعالى من غبار في ساحة وغى محمومة، فالنظام العربي الضعيف المهزوم، يتذاكى أمام "المتلازمة الإسرائيلية"، ويسترخص أي نظر للصحوة، أو حراك يشفي غليل الثائرين ضد نفاقه وتصنعه وقابليته للتطبيع مع الكيان. وهو بذلك، يستأسد فقط على شعوبه التي يحكمها بالحديد والنار، دون أن تكون لجيوشه الورقية أية تأثيرات في بنى الأنساق الحربية السيادية والتقائيتها بالمنظومة الديمقراطية وخلافها. ويتهم الكاتب الأنظمة العربية وفق عديد أسباب وخلفيات، بتكريس الرجعية وغياب الاستراتيجيا وغياب الإرادة السياسية، واصطراع الانقسامات البينية بسبب مخلفات خرائط سايس بيكو الاستعمارية.. إلخ. وهو ما يؤسس لما أسماه البرغوثي ب"النظام العربي الجديد"، الذي هيأت له أحداث 7 أكتوبر المجيدة، معلنة موت النظام العربي القديم بعد فترة (الكوما) التي عاشها لفترة طويلة.
التطبيع.. هوس النظام العربي الجديد
النظام العربي الجديد الذي تحدث البرغوثي عن تشكله وامتداده، ينبني أساسا على القطرية، وحد أدنى من العمل المشترك، بمؤسسات وتوجهات مغايرة تماما لتوجهات النظام القديم (الناصري وامتداداته). إذ إن هذا التجاوز ذهب إلى تغيير كلي في التوجه، بالانتقال العلني والواضح والكلي إلى الجبهة المقابلة. و"هو مفرغ تماما من أية رؤيا تحررية للمنطقة، ومؤمن بضرورة الاندماج الكامل مع "الأعداء" التاريخيين للأمة". وهذا هو مربط الفرس؟.
وحول تجاوزات تصريف هذا التخبط وتمدداته في الوعي العربي المأزوم، يضعنا الدكتور البرغوثي، في القاطرة التي تجر خيول القطرية الهشة، التي تتباها بميزابها جيوش الدول العربية "الخارجة عن رسالتها" و"المنكمشة في عرينها" والمتأبدة في لعب أدوار غير أدوارها، ونظام بيئي ومجالي لا يسع إمكانياتها ومقدراتها، يكاشف أسرار تحول التطبيع مع الكيان الإسرائيلي إلى كل التجاوزات في المخيال القرائي، حيث ينبري كواجهة رومانسية "حب عذري" ، يشكل طفرة اللاحس واللا جدوى واللا معنى؟.
في البداية كان "وهم التطبيع الفلسطيني مع إسرائيل"، وبعده "العربي الإسرائيلي"، فتفشى الداء العضال، وصار مصلحة واعتبارات استراتيجية، بيافطة أمريكية مدجنة، وبأوامر مغلفة من إمبراطور الشر الجديد لأمريكا "دونالد ترامب". وسرعان ما أصبح الوضع الفكري الجديد للدول العربية المطبعة، قلب الصورة القديمة، التي صبغت فلسطين بشيء من القدسية وشيطنة إسرائيل من جرائمها، حيث صار مالوفا أن يظهر مثقف عربي على شاشة خليجية يسخف المقاومة الفلسطينية ويحملها مسؤولية الجرائم المرتكبة في غزة على سبيل المثال.
كما أن التطبيع، يضيف المؤلف، تطلب وعيا جديدا إيجابيا بإسرائيل، يركز على استثنائيتها من حيث هي دولة حديثة ومتقدمة وديمقراطية وضحية أيضا. مستطردا بألم كبير :" وحيث هي كذلك، فإن على الفلسطينيين، أن يتفهموا سعيها للحفاظ على أمنها وعلى تفوقها، وأن يتفهموا أن ما يسقط من ضحايا في صفوفهم ليسوا سوى ضحايا "عمل" المتسبب الأساس فيه سوء تقدير قادتهم.
"الإمبرايالية" و"الثقافة" و"الشرق"
على علاقة بهذا التفكير، يعود البرغوثي، من باب الشرق الثقافي الواسع ليثير بعضا من شجون أسئلته ووعيه الراهني ومستقبل تلقيه. وهو نفس التفكير الذي ما فتئ يدعو له في معظم كتاباته ودراساته، والتي رصد في جانب منها، تطلعاته لرؤية شرق محرر، يتاخم امبراطورية بحجم تاريخه الثقافي والحضاري والإنساني. وكتابه "تحرير الشرق.. نحو امبراطورية شرقية ثقافية" يغني في هذا الباب. لكنه، هنا في جزء من إحدى فصوله الحارة يقف البرغوثي مُفككا عناصر "الإمبريالية" و"الثقافة" و"الشرق"، محذرا من أن "الامبريالية الثقافية" تسعى إلى هيمنتها الأيديولوجية على الدول والشعوب المستضعفة، تعيد من خلالها إنتاج تبعية تلك الدول والشعوب لها، وتسهل عملية التحكم بها وبمقدراتها، وتستطيع من خلالها توجيهها لخدمة أهدافها وبالشكل الذي تريد. بل إنه من خلال وسائل هذه الامبريالية الثقافية، كما تسعى إلى خلخلة البنية الفكرية للشعوب المستضعفة، وتحديد إطار لتفكيرها، وتوجيهها نحو أجندات ليس لها علاقة بالمشاكل الحقيقية التي تواجهها تلك الشعوب، وتنشر بينها قيم الفردانية المتحللة من كل التزام يتعلق بالشعب والوطن.
لم يفوت البرغوثي كعادته، توجيه نداء بديل عن هذا السفور القيمي والعبث اللا أخلاقي، إذ حاور المثقف الشرقي، على واجهة الجيوستراتيجيا، من منطلق ثقافي دونه السياسي، بقاعدة تبني المصالح الكبرى للمنطقة، حيث من المطلوب الآن "البحث في كيفية تجاوز مطبات الماضي، والتعامل مع مشاكل الحاضر انطلاقا من الحاضر وليس غيره، دون تجاوز حضور القضية الفلسطينية في مشروع تحرير الشرق، بما يكرس وحدة الشعوب ونهضتها وتقارب اختياراتها، "فلا تحرير لفلسطين من دون شرق ينبناها ويناضل من أجلها، ولا شرق بدون فلسطين التي تعطيه معنى وتحدد هويته وتشكل جوهره وترسم مستقبله.." يقول البرغوثي.
وهو الوعي نفسه، الذي تتجسد مدارته، في مقاربته للطوفان الجديد، تحت طائلة الانغمار ببراديجم الثقافة، وعي يضع "النكبة الفلسطينية" في سياقها السردي الخاص، ويشكل لها وعيا فارقا تحت سلطة وواقع عالم متحرك، يسير بسرعة ويصطدم بحالة وجوم ومباغتة، إذ صارت "النكبة إسرائيلية"، تستعصي على العقل الغربي تصديقها، بعد التباس الصورة الحقيقية، وتحللها من النمطية التقليدية المهشمة. فالسابع من أكتوبر هو إعادة لتدوير الوعي، بل إنه "مصدر إلهام وإنعاش للناريخ والتأريخ الفلسطيني والعربي.."، و"سمح باستعادة المشهد ووعيه بطريقة مختلفة، وأظهر ضرورة رد الاعتبار لجيل النكبة الذي عانى ما عاناه، رغم أن جزءا كبيرا من تم إخفاؤه".
تماهي "الفلسطينزم" وتورم "الصهيونية"؟
لا يطرح البرغوثي "الفلسطينزم" كبديل أيديولوجي متعثر، يحشر مشروعه الثقافي والحضاري ضمن انتقائيات توهيمية أو تخرصات سياسوية ملتوية، بل كحلقة تأسيس جديدة لمنظمة أخلاق أممية إنسانية، تجسد القدرة على التحرير والصمود والتحدي والوفاء للمبادئ. فعندما استعرت موجات الأيديولوجيات خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقامت قيامة القطبيات وتصادمت جغرافياتها وأفكارها وعقائدها، تحلحلت بنية "الصهيونية"، كنبتة مثلومة في تربة غير مكشوفة، وبإزائها تقمصت اللعب على كل حبال الشطارة والدعارى القيمية، "انتصرت الاشتراكية في الشرق، والرأسمالية في الغرب، و"انتصرت" الصهيونية في كليهما"، هكذا ينظر الكاتب البوغوثي إلى الهيمنة الصهيونية على المشهد الأيديولوجي في النظام العالمي المعاصر، وهو ما وفر جانبا مهما من مشاهد اتساع الهيمنة على باقي المؤسسات الدولية، التي باتت غير قادرة على لجم إسرائيل وتوحشها واستهتارها.
لكن الأخطر من كل هذا وذاك، هو مكامن وخلفيات "إنشاء دولة يهودية بأرض فلسطين التاريخية"، والذي لم يكن هدفا أصيلا على أهميته، بل ثانويا بالنسبة للحركة الصهيونية، إذ إن "الهيمنة" على النظام العالمي، سياسيا واقتصاديا وفكريا (أيديولوجيا)، كان هو الأس المكين لتشبيك العلاقة الغربية الصهيونية، وامتداداتها وتوظيفاتها الشيطانية، وحرص لوبياتها على الحفاظ على توازنات جيوستراتيجية وسياسية واقتصادية متداخلة.
ووفقا لهذا الوضع، يقترح البرغوثي علينا في مقابل صهيونية مجرمة ولا أخلاقية، بما تمثله من "إيديولوجيا" الرأسمال العالمي، لفرض هيمنة القوة والعنصرية والاستعمار على النظام الدولي الذي احتاج ترسيخه إلى حربين عالميتين، (يقترح) "الفلسطينزم" كإيديولوجيا أخلاقية تنهل من مبادئ حقوق الشعوب المستعمرة، الواقعة تحت نير الاحتلال، كحركة تحررية تسعى إلى التخلص من الهيمنة والاستبداد "أيديولوجيا كل المضطهدين والمستلبة حقوقهم والمزيفة ثقافتهم في كل العالم، والمتطلعين إلى التخلص من النظام العالمي الظالم والمتوحش، وخلق نظام عالمي بديل يقوم على العدل والمساواة والحق والتعاون".
وفوق ذلك، فإن المؤلف يستنطق القيمة النوعية لنظريته الأخلاقية السياسية، متوثبا في اتجاه عدم "معيرة الفلسطينزم" ، من كونها موقفا متضامنا مع القضية الفلسطينية، بل النظر إليها من زاوية المنظومة الفكرية التي تتسع لقيم الإنسان والعيش المشترك ومبادئ الحقوق والأخلاقيات المستتبعة لها. فالفلسطينزم، بعكس الصهيونية، تعتمد في ايديولوجيتها سمو الأخلاق ونشر العدل واعتمال العقل والمنطق، إذ "ليس من الضروري أن تكون فلسطينيا بالمعنى القومي حتى تكون فلسطينيا بالمعنى الأيدولوجي .. كل ما نحتاجه هو أن تؤمن بحق الإنسان وحرية الشعوب، وتدرك خطورة التعايش مع أيديولوجيا الهيمنة والحروب"، يقول البرغوثي.
***
د مصطفى غلمان
........................
* "من فلسطين إلى "الفلسطينزم": قول في الوعي والمعنى" إياد البرغوثي، ط1/ 2025، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت