قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءة نقدية تأويلية في قصيدة الشاعرة آمال زكريا

نيسان الرحيل

من نيسان قديم والجراح تفيض

قطرةُ حزن على شفتيكِ تحومُ

يا خائن الحبِّ والرُّوح ترحَم

شظايا قلبي في الانكسار تئن

*

يا ابتاه.. صفير الشتاء

بعد ثمان وعشر

يلفعني

وأسناني تساقطت

لقد كبرت ياأبي

ثقل الصدى في اذني

تركتني في صخب السرد

رميت خلفك ليال شقراء

*

ظننت وداعَك الألم الأعظم

تفاجئت بما خبئه لي غدر الزمان

تركني حبيبي في صقيعَ الوحدة

لقد مت يا ابي مرارا

موتٌ يوجعُ في أعماقِ الروحِ

الليل لم يعد يحضنني

لا ذراع لها قصائدي

البراري موحشة دون ظله الطويل

ذئابُ الخوفِ تعوي في صدري

وأنا شاردةٌ بلا أنياب ولا رفاق

كلُّ ثقتي نزفتْ بلا عودة

*

المرايا صدقت إذ رسمتْ ملاكاً

متوجاً برِفق في ظل الهمسِ الطويل

ابتسمتِ السماء برداً

رمتني حبلى وانا اليتم

تشبثت برقَّة أبوةٍ عادتْ

لكن الموج رقص على وجه الحقيقةِ

فحطم معتقدي في لحظة طائشة

*

ثم زال الغمام وتلاشت الضلال

لقد رحلت

واليتم ثوبي

والكون صار حديداً

*

بكيت وداعَك دمعاً

وهنا أنا

أنوحُ شوقاً

لحنانك

ولصفاء قلبكِ

اعلم انك كما رحلت

ستعود

مثل سنونو

ستعود إلى عشك الأنيق

وترسم لي أجنحة جديدة

وقصائد

كي نحلق معا

في اسفار العشق

من جديد ..

***

ٱمال زكريا - الجزائر

23/4/2025

....................

مقدمة

تأخذنا الشاعرة آمال زكريا في قصيدتها "نيسان الرحيل" في رحلة عاطفية غنية بالعواطف والألم والذاكرة، حيث تمزج بين الحزن العميق والأمل المستمر، وبين الموت والرجاء. من خلال هذا النص، تبرز الصورة الشعرية المتقنة واستخدام الرمزية التي تعبر عن تجارب الحياة المختلفة، لاسيما تلك المرتبطة بالفقدان والذكريات المؤلمة.

الرمزية والمعنى العميق

تبدأ الشاعرة بتقديم صورة نيسان – الشهر الذي يرتبط عادة بالربيع وبالفرح والتجدد، لكن في قصيدتها، يصبح نيسان رمزًا للفقد والرحيل والألم. "من نيسان قديم والجراح تفيض" هو بداية مؤلمة تعكس كيف أن الفقد قد أضحى جزءًا من التاريخ الشخصي للشاعرة. فهي تعبر عن جراحها النفسية التي تتجدد مع مرور الزمن، خاصة عندما تقول: "قطرةُ حزن على شفتيكِ تحومُ"، لتوحي أن الألم أصبح لا يفارقها وكأنه جزء من كيانها.

شخصية الشاعرة تتألم من الخيانة، وتصف هذه الخيانة بأنها تصل إلى أعماق الروح، إذ تقول: "يا خائن الحبِّ والرُّوح ترحَم". هذه العبارة تعكس صراعًا داخليًا، حيث تُحمّل الحبيب مسؤولية الخيانة، وهو في ذات الوقت يعكس ألمًا لا يُحتمل يعصف بالشاعرة.

الرحيل والفقد الأبوي

القصيدة تتعامل مع رحيل الأب وذكرياته الحية التي تلاحق الشاعرة. هنا، يبدو أن الشاعرة تحاول مواجهة الفقد الأبوي، ولكن دون أن تستطيع التخلص من الألم الناتج عن غيابه. من خلال العبارات مثل "يا ابتاه.. صفير الشتاء" و"أسناني تساقطت" نجد أنها تبرز كيف أصبح الزمن عبئًا ثقيلًا بعد رحيل الأب. هذه الصور تحيلنا إلى مراحل من التراكم النفسي والجسدي على الشاعرة، حيث أصبحت تشعر بأنها تكبر وتتغير دون أن تجد في حياتها ما يعوض فقدان الأب.

رمزية الوحدة والصراع الداخلي

"لقد مت يا أبي مرارًا"، هنا تُظهر الشاعرة الصراع الداخلي العميق الذي تعيشه بعد موت أبيها. الموت الذي يشير إلى حالة من العزلة والفراغ العاطفي والروحي. هذا الموت يتكرر مع كل ذكرى أو موقف يذكّرها بغيابه، مما يجعلها تشعر كأنها تموت داخليًا في كل مرة. "الليل لم يعد يحضنني" تعبير عن فقدان الأمان والراحة التي كان يوفرها لها وجود الأب.

الأسى والبحث عن الأمل

ثم تأتي الشاعرة لتصف مرحلة من الضعف والوحدة: "البراري موحشة دون ظله الطويل / ذئابُ الخوفِ تعوي في صدري". البراري تمثل الفراغ أو اللامكان، حيث لا شيء يملأ الفراغ سوى الخوف الذي يعصف بالشاعرة. ومع ذلك، تظل تبحث عن الأمل رغم كل شيء.

المرايا التي تصدق "إذ رسمتْ ملاكاً" هنا تمثل محاولة الشاعرة لرؤية صورة مثالية لم يكن بإمكانها الوصول إليها في الواقع. وهي أيضًا تمثل صورًا عن رغبتها في العودة إلى البراءة التي كانت عليها في الماضي، حينما كان الأب مصدر الأمان والطمأنينة.

التحول والتجدد: العودة إلى الحياة

نهاية القصيدة تحمل بارقة أمل تُنقض الفقد. "اعلم انك كما رحلت / ستعود / مثل سنونو / ستعود إلى عشك الأنيق". هذا التحول في النهاية يعكس الفكرة الرئيسية في القصيدة: التحول من الحزن إلى الأمل، ومن الفقد إلى الرجاء. السنونو، الطائر الذي يُعرف بعودته السنوية، يصبح رمزًا للتجدد والرجوع. ربما تكون الشاعرة تتحدث عن العودة الروحية لأبيها، حيث تؤمن بعودته في صورته الطيفية، تعود لتمنحها الأمل وترافقها في حياتها.

الأسلوب الشعري والتأثيرات الأدبية

تُظهر القصيدة أسلوبًا شعريًا غنيًا بالصور البلاغية والاستعارات التي تضفي عمقًا على النص. الشاعرة تستخدم تقنيات مثل التكرار، والرمزية، والانتقال بين الأزمنة والأماكن، مما يساهم في بناء حالة من التشويش العاطفي والعقلي. لغة القصيدة تُعبّر عن التوتر الداخلي، وتُظهر الصراع بين الأمل واليأس، بين الحزن والرجاء، مما يعكس قدرة الشاعرة على تجسيد المشاعر الإنسانية المعقدة بلغة مرهفة.

الخاتمة

قصيدة "نيسان الرحيل" هي شهادة على قوة التحمل الإنساني في مواجهة الفقد، والبحث المستمر عن الأمل حتى في أحلك اللحظات. من خلال استخدام الرمزية القوية والأسلوب الشعري المؤثر، استطاعت آمال زكريا أن تُقدّم تجربة إنسانية عميقة تدور حول الحزن، الفقد، والأمل. تلك الرحلة التي تبدأ بالحزن لا تنتهي إلا بالإيمان بالعودة، والتجدد، وتحقيق الذات من خلال الحب والذكريات.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في المثقف اليوم