قراءات نقدية

فؤاد الجشي: رواية "القربان" لـ غائب طعمة فرمان

تُعدّ رواية القربان للكاتب العراقي غائب طعمة فرمان واحدة من أبرز روايات الواقعية الاجتماعية في الأدب العربي، إذ ترصد بانتباه تفاصيل الحياة اليومية للعراقيين في منتصف القرن العشرين، وتغوص في أحوال المهمّشين والمغلوبين على أمرهم في مواجهة تحولات قاسية، سياسية واجتماعية. ومن بين المقاطع اللافتة في الرواية، يأتي مشهد الزورخانة بوصفه تصويرًا كثيف الدلالة لمكان شعبي، يتجاوز كونه فضاءً رياضيًا، ليتحول إلى رمز للهروب المؤقت، والتشبث بما تبقى من توازن داخلي.

يبدأ المشهد بعبارة بسيطة: “راح أغيب كم دقيقة”، لكنّ هذه الجملة، رغم بساطتها، تعبّر عن نزعة داخلية لدى الشخصية للابتعاد عن ضجيج الحياة. فالخروج من المقهى إلى الزورخانة ليس تحركًا عشوائيًا، بل هو فعل انسحاب رمزي من واقع خانق إلى مكان أكثر سكينة، وأكثر التصاقًا بالجسد، وربما بالذكريات أيضًا. هنا، يصبح “الغياب” لحظيًا، لكنه غني بالمعنى.

الزورخانة، كما يصفها المؤلف، ليست صالة رياضية بالمعنى الحديث، بل بيت قديم مجهول الأصل، تنهشه الرطوبة والمطر، وتكسوه طبقة من الإهمال والعزلة. وصف المكان يأتي بتفاصيل دقيقة: الجفرة المثلمة، الدكة الطينية، الحصير المهلهل، والسقف الذي يتسرب منه المطر. كلّ عنصر من هذه العناصر يحمل دلالة خفية. الجفرة، التي كانت في الماضي مركز الحركة والنشاط، أصبحت مهجورة، كأنها استعارة لحالة المجتمع أو لروح الإنسان التي أصابها الوهن. المطر الذي “ينقع الجدران” و”يتسرب من خلال السقف” لا ينظف المكان، بل يضاعف عزلته وانهياره.

اللافت في هذا المشهد أنّ المؤلف لا يصف الزورخانة كفضاء خاص ببطل الرواية وحده، بل يجعلها تنتمي للمجتمع المحلي بأكمله. إنّها “زورخانة المحلة”، تمامًا كما أنّ مقهى “دبش” هو مقهى أهل الطرف. الزورخانة هنا تتحول إلى مؤسسة مجتمعية، لكنها ليست رسمية أو منظمة، بل عفوية بسيطة صادقة. إنها من الأماكن التي تحافظ على طابعها الشعبي، والتي يلجأ إليها الناس متى أحسّوا بثقل أجسادهم أو ضيق صدورهم. بهذا المعنى، يصبح المكان ذاته نوعًا من “القربان”، تضحية بالوقت والجهد والجسد في سبيل الحصول على قدر من السلام الداخلي.

أما مستوى السرد، يتعامل غائب طعمة فرمان مع المكان بوصفه شخصية موازية، لا تقلّ حيوية عن الشخصيات البشرية. فهو يمنح الزورخانة ملامح حسية واضحة، ويجعل القارئ يشعر بخشونة جدرانها، وبرودة أرضها، وبروائحها القديمة. بل إنه، من خلال هذه التفاصيل، يزرع إحساسًا بالزمن الذي مرّ عليها، وكأنها شاهد على تحول الأجيال والمجتمع.

ما يميز هذا المشهد أيضًا هو ارتباطه العميق بالثيمة العامة للرواية: ثيمة التآكل والبقاء. في عالم يبدو وكأنه يسير نحو التفسخ، تتشبث الشخصيات بالأماكن التي تمنحها شيئًا من الثبات. الزورخانة، رغم هشاشتها، تمنح بعض الشخصيات لحظة صدق مع الجسد، مع التعب، وربما مع الذاكرة. ممارسة التمارين فيها ليست فعلًا رياضيًا فحسب، بل طقسًا وجوديًا يعيد للإنسان صلته بالأرض وبنفسه.

 إنّ مشهد الزورخانة في القربان لا يمثل فقط محطة سردية عابرة، بل يكشف عن البنية العميقة للرواية التي تمزج بين وصف الواقع وتحليل النفس، بين اليومي العابر والدلالة الرمزية. وبهذا، يبرهن الكاتب على قدرته الفذّة في تحويل أبسط الأماكن إلى مرايا كاشفة لحياة بأكملها.

***

فؤاد الجشي

 

في المثقف اليوم