قراءات نقدية
حميد بن خيبش: عزيز نيسن و(أطفال آخر زمن)

يتفق قراء الأديب التركي عزيز نيسن، وأغلب نقاده كذلك، على أن سره الإبداعي يكمن في بساطته، وقدرته على التعامل مع الأحداث بفنية عالية. إنه الكاتب الذي لا يكتفي بمتابعة الوقائع من شرفته، بل يتسلل بخفة ساحر من ثقب المفتاح، ليرصد أدق تفاصيل شخصياته، وينقل بسخرية بالغة الألم مجريات الحياة اليومية، والقضايا التي تشغل البسطاء.
عاش محمد نصرت نيسن حياة متقلبة، ونزل في ضيافة السجون التركية مرارا بسبب مواقفه الحادة، وتمرده الذي يصل حد الجنون. وجعل من الكلمة السهلة واللاذعة وسيلته لكشف مفارقات حادة، نتجت عن تأرجح المجتمع بين أصوله الشرقية وتطلعه للغرب. فأغنى المكتبة الأدبية بعشرات القصص الساخرة والمستلهمة من واقع مرير.
في روايته المميزة (أطفال آخر زمن) يُقارب عزيز نيسن الحياة الأسرية من منظور طفلين يتبادلان الرسائل. وإذا كنا قد تعودنا أن يكتب الأديب للأطفال ويتحدث إليهم، فإن نيسن يقلب المعادلة ليُفسح المجال للأطفال كي يتحدثوا لنا وعنا، ويهدموا تمثلات سائدة لدى أغلب الآباء بأنهم عند حسن الظن، وأن أبناءهم راضون عنهم مادام السكوت علامة رضا!
يقول نيسن مُنبها قراءه " إن هذه الرواية، وإن كانت كُتبت بشكل روائي، إلا أنها دروس مرتبطة بهذه الخصال الطيبة والقبيحة. وهي للأطفال والكبار، ولكل من يحترمون الحياة الأسرية ويحبونها. خواطر عذبة تبعث التسلية وتحمل الموعظة."
صيغت الرواية ضمن قالب يعتمد رسائل متبادلة بين أحمد تارباري وزينب يالكر؛ صديقان يكشفان من خلال يوميات الأسرة والصف الدراسي جملة من الظواهر والمشاكل التي تؤثر سلبا على الصغار، وتحد من استمتاعهم بتلك المرحلة العمرية.
يحكي أحمد في رسالته الأولى عن المعلم الجديد الذي يأمرهم بنسيان كل ما تعلموه ليبدؤوا التعلم من جديد. الأمر الذي استنكره التلاميذ لما فيه من إساءة غير مباشرة لمعلمهم القديم الذي انتقل إلى منطقة أخرى. وأمام إصراره يقرر الأذكياء منهم النسيان عمدا ليضعوه في موقف حرج أمام المدير.
وفي رسالة زينب نقف على تصرف لا يُقَدر الآباء خطورته، حين يسعون لإعطاء القدوة من أنفسهم معتمدين على الأكاذيب. وهكذا تكتشف الطفلة أثناء جدالها مع بعض رفاق المدرسة أن أباها لم يكن الأول على فصله كما يزعم، فتضع بذلك حدا لتوبيخه المستمر.
وينقلنا أحمد في رسالة أخرى إلى تمثلات التلاميذ حول المفتش، والذعر الذي يتملكهم بفعل ضغط المعلم وحرصه الزائد على تأكيد تفوق صغاره. وخلال رده على أسئلة المفتش يتحول الارتباك إلى لوحة ساخرة تحرر الفصل بكامله من التوتر.
وتكشف مريم في إحدى يومياتها عن خطورة الأحاديث الصريحة أمام الأبناء، وإبدائهم لمواقفهم من الآخرين دون انتباه لما يسببه ذلك للطفل من حيرة وتشتت، خاصة حين تصبح العلاقة مع الآخر رهينة الزيف والمجاملة المفرطة. لقد كان حديث الأب عن "زينالي بيك " الكسول الذي أصبح ثريا يملك الشركات، سببا في تذمر الابن أمام صيغ المجاملة التي رافقت حفل خطبة البنت الكبرى من ابن "زينالي بيك"، بل ورفضه متابعة دراسته ليصبح غبيا يملك مالا كثيرا، تماما مثل "زينالي بيك".
وفي رسالة أخرى نطالع موقف الصغار من الواجبات المنزلية التي يُثقل بها المعلم كاهلهم، وتساؤلهم حول الغاية من هذا العمل الشاق وجدوى القيام به، خاصة إن كان المعلم لا يتابعه. فعثمان، التلميذ الشاطر في صف زينب، يؤكد لرفاقه أن المعلم لا يلقي نظرة على واجباتهم المنزلية، بل يمزقها ويلقي بها في وعاء النفايات. ويقرر أن يكتب كلاما فارغا بدل الواجب المنزلي ليؤكد صحة كلامه. ولسوء الحظ تزور إحدى الجارات بيت المعلم، وتستغرب من قدرته على تصحيح كم هائل من الواجبات المنزلية، لكن الأخير يؤكد لها أن الجميع أذكياء ومتفوقون، وخير دليل على ذلك ورقة عثمان!
يضع عزيز نيسن أصبعا حارقة على المواقف التي تسيء للطفولة، ويتبين من خلالها عجزُ الراشدين على أن ينفذوا الوصايا التي يتلونها كل ليلة على صغارهم. فبعض الآباء الذين يجعلون من حصَّالة النقود سبيلا لتعويد الطفل على الحرص وترشيد الإنفاق، قد يضطرون لاقتراض المال منها بعد أن خسروا راتب الشهر في حفلة رأس السنة! وهكذا تتحول النصائح في ضمير الطفل إلى خزعبلات يمل سماعها، ويمنعه من الاحتجاج عليها صوت أحدهما وهو يردد متوعدا:" إذا فتحت فمك بمثل هذا الكلام أصُب الفلفل في فمك!"
ولعل أشد ما يؤلم الصغار هو لجوء الوالدين أو المدرسين إلى الصراخ والتهديد واللهجة المتعالية، خاصة حين يعجزون عن تبرير سلوك معين، أو الإجابة عن سؤال محرج. فأسئلة من قبيل: كيف تلد النساء؟ ولماذا لا يرقص الرجال؟ وهل الأطفال حقا لا يفهمون كل شيء؟ هي تعبير عن الفضول المعرفي الذي تتسم به تلك المرحلة العمرية. وما أحوج الصغار إلى من ييسر لهم الفهم دون تظاهر بالحرج أو الخجل. لكنها مفارقات المجتمع الشرقي التي يدفع الأبناء ثمنها غاليا في بعض الأحيان.
يُصرح عزيز نيسن في ختام عمله المشوق ذاك بأن الرسائل من وحي خياله، وأن هدفه هو إسداء النصائح للكبار بلسان الصغار:" لقد كان ما أردته، وما آمل به هو ألا تتحول قلوبكم الصغيرة النقية الصافية كالمرآة، بعد إدراك هذه المفاسد، إلى اقتدائها والتمثل بها. وأن تفطنوا إلى أن العمل القبيح هو عمل قبيح، سواء صدر عن المعلم أو عن والد الطفل أو والدته اللذين هما أعز الناس على قلبه. وأن تأخذوا العبرة ولا تنساقوا في دروب الأعمال القبيحة أبدا".
***
حميد بن خيبش