قراءات نقدية

رمضان بن رمضان: قراءة في مجموعة ضياء بوسالمي الشعرية الأخيرة

"فان غوغ ببزة عسكرية".. جدلية الإنكشاف والإحتجاب أو في التداخل بين الفني والسياسي

مدخل: هذا النص الشعري هو الأثر الثالث في الأعمال الشعرية لضياء البوسالمي بعد مجموعته الأولى " أقف وحيدا أمام الجدار " الصادرة سنة 2018 ومجموعته الثانية " ألف طيف وطيف للموت " الصادرة سنة 2020، هو شاعر ينتمي لثورة 17 ديسمبر- 14 جانفي 2011، بآمتياز بحكم أن أغلب ما أصدره كان في العشرية الأولى للثورة، فلا يمكن له أن ينفلت من تداعياتها إن قليلا أو كثيرا وقد نعثر عن أثر لذلك فيما يحبر، وذلك رغم ما أصاب الثورة من نكوص، حاد بها عما كانت منذورة له من آمال وأحلام.

1-عتبات النص:

هذه المجموعة الشعرية نشرت ضمن سلسلة شعرية تحمل عنوان نبض عن دار النشر pop Libris  في الثلث الأول من سنة 2025 في طبعتها الأولى، الكتاب من الحجم الصغير، يشتمل على خمس وعشرين نصا شعريا وردت في مائة وعشر صفحات

أ – غلاف الكتاب: يحمل الغلاف صورة لفان غوغ الرسام الشهير (1853- 1890) ببزة عسكرية بلون أزرق سماوي في الجانب الأيمن من الغلاف، يزداد دكانة في جانبه الأيسر، يحتل العنوان مساحة كبيرة من الغلاف باللون الأصفر، في جزئه الأول وبخط غليظ في حين يكون الجزء الثاني بخط صغير، في أسفل العنوان يمينا إسم الشاعر، في الجانب الأيسر من الغلاف إسم للسلسلة التي تحتضن الأثر الشعري – نبض -. الصورة في الغلاف تطابق عنوان الكتاب، فكأن العنوان تأكيد للصورة وليست الصورة تأكيدا للعنوان، لأننا إزاء أثر لغوي قد يظل جنسه مفتوحا على المجهول، إلا أنه قائم على اللغة أساسا وإن تخللته بعض الرسوم واللوحات للرسامة المصرية مي كريم، أعدت خصيصا للمجموعة في تداخل بين فني الرسم والكتابة فهل تكون الرسوم أصدق إنباء من الحروف؟ جنس الكتابة سيتكشف إذا تجاوزنا الغلاف إلى متن الكتاب. أسفل الغلاف نجد إسم دار النشر pop Libris.

ب – العنوان: هو في الأصل عنوان القصيدة الأولى التي وهبت إسمها للمجموعة ومكنت مصمم الكتاب من إستيحاء صورة الغلاف، إن العنوان بلاغيا يدخل في دلالة الجزء على الكل. العنوان من حيث التركيب النحوي تركيب إسنادي مسند إليه مع مسند: علم + مركب بالجر مبدوء بحرف الجر – ب – الذي يدل على الحالية أو الوصفية، فنحن إزاء علم- رسام ذي شهرة عالمية- وضعه الشاعر في حالة مفارقة une situation paradoxale حيث ألبسه بزة عسكرية، مما يفتح النص على أسئلة الدلالة الحارقة.قد يكون للمناخات التي كتبت فيها المجموعة أثرها في ذلك من حيث صياغة العنوان ومن حيث دلالاته ومن حيث إختياره كعنوان للأثر.

ج- بنية الكتاب: التصدير: يشتمل على سطرين شعريين من قصيد " أثر الفراشة " لمحمود درويش نشر في كتاب أثر الفراشة الصادر عن دار الريس، بيروت، سنة 2008. هذان السطران يضفيان شرعية أدبية لإسم السلسلة- سلسلة نبض- في تلاحم بين الجانب الفيزيولوجي والجانب الإبداعي. إن أثر الفراشة لا يرى ولا يزول وهو نظرية فلسفية وفيزيائية تعني أن أي حدث يحدث في الكون يكون ناتجا عن مجموعة أحداث صغيرة لم يلاحظها أحد.

على سبيل المقدمة: بعد الإهداء والتنويه نعثر على نص مربك يصعب تصنيفه إختار له صاحبه عنوانا فرنسيا Antipréface ،و لئن كان موقعه في الكتاب يشي بأنه تقديم للعمل أو رسم لمعالم قراءة له،فإن صاحبه وهو الأستاذ ناظم بن إبراهيم حاول أن يكون نصه في تضاد مع ما هو متعارف عليه في المقدمات بل جعله يزخر بمفاهيم نقدية مستنبتة من مجالات جديدة على النقد الأدبي أو هي تعمل على وضع لبنات جديدة ل" مدرسة تخرج عن المألوف والسائد في قراءة النصوص الشعرية ".تمسح المقدمة/ المضادة تسع صفحات (من الصفحة 11 إلى الصفحة 20) مليئة بمعجم نقدي يطرح أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، من قبيل من أين تستمد النصوص شرعيتها، هل مأتاها النقد المسلط عليها، أم أنها هي التي تعطي للناقد ما به يؤسس شرعية لنقده؟ يعمد الأستاذ ناظم إلى إستبدال مفاهيم إغريقية/ غربية بمفاهيم من لغتنا العامية مثل " البطحاء " بدل الأغوراl'agora والبلطجي بدل الناقد، بحثا عن خصوصية ثقافية، فالنقد ليس مصطلحا مهاجرا بل له ما يؤصله في المدونة الأدبية القديمة [ آنظر إبن رشيق القيرواني (ت 456 هج / 1064 م)، العمدة في محاسن الشعر ونقده وآدابه، ] ومصطلح النقد مصطلح مهاجر من مجال المال والتجارة إلى مجال الأدب والنصوص، هي هجرة داخل الثقافة العربية الإسلامية، من المعنى اللغوي إلى المعنى الإصطلاحي " فالنقد يعرف لغة بأنه تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ويأتي بمعنى فحص الشيء وكشف عيوبه، أما في الإصطلاح فالنقد هو تمحيص العمل الأدبي بشكل متكامل بعد الإنتهاء من كتابته، بكشف مواطن الجودة والرداءة فيه " (آنظر، شيرين أحمد، تعريف النقد، موقع " موضوع" بتاريخ 29 مارس 2022). هل تحتاج نصوص الشاعر إلى فوضى خلاقة يضطلع بها " بلطجية " يعملون معاول " النقد " فيها بغاية تفجيرها من الداخل، فتتشظى بنيتها ويعمل البلطجية على لملمة ما تناثر من مكوناتها وإعادة صياغتها ضمن رؤية جديدة محكومة بتراجيديا معاصرة، في ظل واقع مترع بالسوداوية.

أقسام الكتاب: ينقسم الأثر في متنه إلى ثلاثة أقسام، كل قسم يشتمل على عدد من. القصائد، القسم الأول عنوانه " أيها الماضي من رآك " من الصفحة 21 إلى الصفحة 44، ويشتمل على أربع قصائد. القسم الثاني، عنوانه " حقول من الكلمات الصدئة "، من الصفحة 45 إلى الصفحة 98، ويشتمل على أربع عشرة قصيدة. القسم الثالث عنوانه " تحت جسر الوقت "، من الصفحة 99 إلى الصفحة 128، ويشتمل على سبع قصائد.

2 – تحليل أقسام الكتاب:

سنحاول إختيار قصيدة من كل قسم لتحليلها تكون معبرة عن القسم والعمل على ربطها بالعنوان الجامع للقسم.

أ – القسم الأول: إخترنا القصيد الذي وهب نفسه للأثر فحملته المجموعة الشعرية، إنه قصيد " فإن غوغ ببزة عسكرية " وهو مهدى من الشاعر إلى علاء الدين سليم..شاعرا سينمائيا. رأى الشاعر في أعماله السينمائية مثل الأغورا ومزجا بين فني الشعر والسينما، فكانت الصورة فيها قدر من الشاعرية، من أعماله أغورا (سنة 2024)، طلامس (سنة 2019)، آخر واحد فينا (سنة 2012)، بابلون Babylon إخراج مشترك (سنة 2012). مما يلفت الانتباه في القصيد قيامه على مفارقة صغرى داخل المفارقة الكبرى التي أشرنا إليها آنفا، والتي تجمع بين العسكريتارية وأحد رموز المدرسة الإنطباعية في الرسم، داخل هذا الإطار العام نفاجأ ب"تجريد" من وهبوا حياتهم للدفاع عن الوطن من حب الوطن أو تهميش مشاعرهم، مما عرف عن المؤسسة العسكرية صمتها، بعيدا عن ضجيج الإعلام، يتيح الشاعر للجنود فرصة الإدلاء بشهاداتهم، يقول الشاعر: " للمهمشين رأي في حب الوطن (شهادات لجنود من الألفية الثانية) ص 23.إن المفارقة التي تفوح رائحتها في الجمع بين الفن والحرب هي التي تتيح للشاعر أن يتحدث عن الوطنية من منظار الإنخراط في المؤسسة العسكرية ، تمكن تلك الثنائية الدخول إلى عوالم الإنتماء في صيغه المتعددة يقول الشاعر عن ذلك " الدفاع عن الوطن علكة بطعم الكرز، لكن لذتها زائلة " (ص 25) يعي الشاعر أن التضحيات الجسام التي يبذلها العسكر بمنسوب مرتفع من الوطنية سيركب عليها السياسي ليحولها إلى خطب مطولة بالفصحى وذكرى سنوية كعيد الأضحى والجامع بين الأضحى والتضحية دماء مسفوحة تسأل لأجل ماذا تلك التضحيات.(ص 25).إذا كان فإن غوغ القادم من عالم الفن – الرسم – وتحيل الببلوغرافيا الخاصة به إلى نوبات من الجنون كان يعيشها وصلت به إلى حد أنه إنتزع أذنه، فإن العسكري الذي يقضي عمره في خدمة وطنه، مرابطا على الثغور بحساسيته الوطنية المرتفع منسوبها، يصبح الضجر الذي رباه ولازمه حتى صار وحشا كاسرا يأتمر بأمره ورهن إشارته، لا جرم حينئذ أن يقدم العسكري على إنتزاع أذنيه الإثنتين من مكانيهما (ص27) ينتهي المقطع الأول من قصيد " فان غوغ ببزة عسكرية " برسم لأذن نازفة وقد لطخ الدم جزءا من الرسم وقد حبرت الرسامة كلمات مأخوذة من المقطع الأول تحكي عن حادثة الأذنين، الرسم يربط بين المقطعين الأول والثاني، رسم الأذنين الداميتين كان بالدماء، لاشيء يربط بين الجندي وفإن غوغ سوى إلتجائهما إلى الحلول الراديكالية (ص 28)، في واقع مترع بالفوضى ومطل على مدارات الجنون واللامعنى. يستعين الشاعر باللغة ليصرف معنى اللفظ في أوجه مختلفة، ينتقل من المعنى الحرفي la dénotation لكلمة " عين وأعين " إلى المعاني الحافة la connotation وما أكثرها في اللغة العربية. أعين تسيل وتتدفق لينسكب منها في جسد العسكري عزم، ثم يعود للعين، حاسة النظر مع فعل "رأى " البصرية حيث هي متمحضة للرؤية دون سواها وقد فقدت قدرتها على الإيحاء والتعبير " ولا تقدر على إظهار الفرح " (ص 29).الدماء عند العسكر مجيرة لإرادة العسكري يصرفها كيف يشاء. " عسكري قف " (ص 29) هذه الجملة ملغزة، الشخص يعرف بنفسه ثم يصدر الأمر بالتوقف، أم أن هناك شخص آخر أمر العسكري بالتوقف، أم هي هواجس العسكري تخاطبه، لأن متقبل الخطاب غير واضح المعالم، فيكون مقول القول عتبة لدخول عوالم الجنون، تتوقف حاسة السمع عن أداء دورها " لم يسمع شيئا هذه المرة " (ص 29) تبقى حاسة البصر لترى المعجزة " أعين ترى المعجزة تتحقق " (ص 29) هي معجزة الإرتواء الذاتي أو التغذية المرتدة التي تؤشر على الإكتفاء بالذات، في قطيعة تامة مع محيطه ومع العالم الخارجي، فالعجز عن التفاعل وعن إظهار الفرح، فما يحاول كتابته على الحائط، بدمائه النازفة يصدر عن ذهن مشوش، تعقبها نوبة من الضحك تثير دهشتهم بل إنه أكثر ما أدهشهم (ص 30) تلك النوبات هي " طقوس عبور" إلى حياة أخرى وهي مؤشر على " الخلاص " الذي بحث عنه ووجد فيه الحل لآلامه. إن الحياة الأخرى التي يبشر بها، سيتسلح من أجل خوض معاركها والبداية ستكون بالإنقطاع عما حوله وآسترجاع ألق البدايات، سيقطع أذنيه ويدخل عالم الصمم لن يهتم بحركة الشفاه ولن يقرأها حتى لا يعيد الصلة بسالف عهده وسيخلق نواميس جديدة يعيش بها، يؤسس بها هذه الحياة الجديدة ويؤثثها فيلتقي سيدة فاتنة تحمل مولوده دون أن يعاشرها ويدخل بنا عوالمه العجائبية والسحرية، تتكثف في آخر القصيد الرموز ذات البعد الأسطوري، لكأن هذه الحياة الأخرى في حاجة إلى ميتافيزيقا مختلفة مزيج من تراثات قديمة منها التوراتي/ الكتابي ومنها الوثني، يستعيد الشاعر علاقته بواقعه الجديد " سيعلمها وجنينها لغة الأعين " (ص 31)، يعمد الشاعر إلى ملاحقة معالم ميتافيزيقية ذات صلة بما عاشه وبما أفضى به إلى عالم الجنون لتفكيكها، فأثر أفعى الخطيئة الأصلية للبشرية، سبب الخروج من الجنة بغواية آدم وحواء، دفعه ليعلن توبة نصوحا، فما عاد اللون الأخضر بكثافته الدلالية يغريه بتجدد الحياة وبعطائها وإزدهارها، وأنه لن يكون فريسة في المستقبل لوسوسة الشيطان فقد سحب منه ذرائع الغواية وذلك بآقتلاع أذنيه، فنبتت مكانهما زهرتا قرنفل – زهرة الآلهة في الثقافات القديمة، رمزا للتفاني والإخلاص والحب والسحر والتميز.

في علاقة عنوان القسم الأول " أيها الماضي.. من رآك؟ " بقصيدة " فان غوغ ببزة عسكرية " شخصية الرسام تحيل إلى فترة من تاريخ الآخر، يستنطقها الشاعر في ظرفية تاريخية تتسم بالتوتر السياسي والثقافي، من باب " تكلم حتى أراك " فالماضي الذي غلب على السطور الشعرية للقصيد، يمثل أمامنا وبيننا في الهنا والآن هو للتجاوز، فالمراوحة بين ماض مختلف عنا ولكنه صبغنا بصبغته التي لم نجد بعد منها فكاكا، صبغة الإكراه دون الرضا وحاضرنا الذي لن تقوم له قائمة إلا بآعتماد سبيلي الهدم والبناء. لقد تعامل الشاعر مع هذه المعضلة بتوخي منهجية جدلية قائمة على ثنائية الخفاء والتجلي كما عرفت عند الناقد السوري كمال أبو ديب، فالخفاء يشير إلى الطبقات العميقة والمضمرة في النص الشعري وفي ما لا يقال صراحة ولكنه يفهم عبر التلميح والتأويل  أما التجلي فهو العناصر الظاهرة في النص كالصورة الشعرية والتشبيه والإستعارة والمجاز والإيقاع والتركيب اللفظي. فالتفاعل الجدلي بين هذين المفهومين يصنع المعنى في النصوص الشعرية.  متوسلا ما عرف في تراثنا من بحث عن الأشباه والنظائر حتى يجعل من مآلات الأمور تكاد تكون متطابقة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

 

في المثقف اليوم