قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية نفسية ورمزية وتأويلية موسّعة

لقصيدة: "مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر"، للشاعرة سمر اليازجي
تدفعنا الشاعرة سمر اليازجي للدخول إلى جوهر وكنه المعنى والمدلول الشعري عبر مدخل تأويلي عام: "لغة الحيرة وتيه المعنى".
القصيدة موضوع الدراسة تنتمي إلى نمط شعري فائق الكثافة والتعقيد، يجمع بين التموّج العاطفي والتمويه الرمزي، وبين الانكشاف الوجداني والستر التعبيري. إنها قصيدة تنبني على مفارقة جوهرية: الرغبة في البوح الموجع مقابل الحذر من الانكشاف.
في ظاهرها، تبث القصيدة لواعج عاشق، لكنها في جوهرها رؤية تأملية للوجود الداخلي في حالاته المضطربة، عبر استعارات لغوية مفرطة الدقة والامتداد، وتوظيف عالٍ للطاقة الإيحائية في اللغة.
وهذا ما يبيلنا لأن نغوص في أعماق القصيدة لنستبطن بعدها النفسي من منظور الدينامية العاطفية والوسواس القهري العاطفي.
الحراك النفسي الداخلي:
منذ المطلع، تقدّم الشاعرة سمر اليازجي صورةً شعورية محتدمة، تقول:
"شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ
يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ"
نحن هنا إزاء شعور يحترق لا في باطن الجسد فحسب، بل في آليات التنفس ذاته؛ أي أنّ الحريق داخلي وخارجي في آن، ما يدلّ على قلق وجودي متجذّر يتجاوز الحزن العاطفي العادي. "يُغبش أوضح الرؤيا" ليس فقط اضطراباً في البصيرة، بل يدلّ على تشوّه إدراكي ناتج عن توتر داخلي، ما يقارب المفهوم النفسي لما يسمى Kognitive Verzerrung وهي تُستخدم في السياقات النفسية للإشارة إلى "التحريفات" أو "التشوهات" في التفكير والإدراك التي تؤدي إلى رؤى غير واقعية أو سلبية تجاه الذات أو العالم ، وعبارة أخرى
"التشوه المعرفي" أو "التحريف المعرفي".
مما يدل على وجود وسواس قهري عاطفي، تقول الشاعرة سمر اليازجي:
"غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا
وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ"
هنا تتجلى حالة من التردد بين الكبت والتصريح، بين الرغبة في التفجّر والاحتراس من العواقب، وهي من سمات الشخصية الوسواسية الحسّاسة في بعدها العاطفي. النفس هنا تعيش مأزقًا من التناقض: البوح معناه التعري، والصمت معناه الاختناق.
القراءة الرمزية – العاشق بوصفه استعارة كونية
1. المجاز كمسرح داخلي تقول:
"على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ
سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ"
الشط ليس مجرد مكان، بل فضاء هلامي بين برّ اليقين وبحر اللاحقيقة. "سفِسطائية المعنى" هنا ليست قدحًا في الفكر، بل إشارة إلى انعدام اليقين العاطفي، وتشظي الدلالة الوجدانية. القلب، إذ يسكن المجاز، يتحرّك في حدود متقلقلة من الحقيقة والوهم، وهي صورة رمزية لحالة اللايقين في الحب.
2. الموج والجزر، تقول الشاعرة اليازجي:
"إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا
أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ"
هنا تتجلّى ثنائية الانفعال والانكفاء، الرغبة والانكماش، الليل والنهار، وكلّها صور رمزية للمدّ والجزر النفسي في تجربة الحب. الشاعرة هنا تُسقِط الميكانيكا الكونية على الاضطراب الداخلي، في محاولة لردم الهوة بين الذات والكون.
- القراءة التأويلية – من النص إلى الفضاء الأنطولوجي
1. القصيدة كرحلة أنطولوجية:
القصيدة لا تقتصر على وصف علاقة بين عاشق ومعشوق، بل تقدّم رحلةً وجودية في قلب التيه الإنساني. نقرأ مثلاً هذا البيت، تقول:
"تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا
بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ"
نحن إزاء صورة كيميائية رمزية؛ "تحمّض" تدل على تفاعلات دفينة في وعاء مغلق، والخوابي هنا تمثّل اللاوعي، فيما "شفتي" هي اللسان – موضع البوح واللغة. الانتصار ليس إنجازاً خارجياً، بل القدرة على اختراق الخوف بالكلمة، أو تحويل الخوف إلى نص.
الازدواج الوجودي تقول الشاعرة سمر اليازجي:
"هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو
كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ"
السطران يحمِلان عمقاً رمزياً كثيفاً: الآخر / المعشوق هو السبورة (الصفحة البيضاء، المطلق)، أما المتكلم فهو الطباشير (الزائل، المؤقت). في هذا التمثيل نقرأ صراع الهوية أمام المطلق، وتوق الضعيف لترك أثره على الكائن المثالي، مع الوعي بأنه أثر عابر.
- الزمن الداخلي – انتظار دون أمل . تقول:
"عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو
وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ"
في هذا الختام، تتبدّى القصيدة في كليتها كـ زمن مغلق، مسكون بـ"الساعة السوداء" – الزمن المعلّق. لا انتظار لمجيء أحد، بل انتظار لرفع الظلمة، لكشف المصير، لانبلاج الإجابة. وهو ما يتقاطع مع مفاهيم مارتن هايدغر حول القلق الوجودي والزمن كأفق للكينونة.
البنية الإيقاعية – بين الإيقاع والانفعال
تُكتَب القصيدة على بحر الكامل، وهو بحر واسع النبض، يمتاز بالحركة والإيقاع الطربي، لكنّ القصيدة هنا لم تستثمره للغنائية بل حوّلته إلى إيقاع داخلي مأزوم، مليء بالتقطيع، التأرجح، والتوتر.
حتى القوافي جاءت محفوفة بالانزلاق: كلها على "فاعله" المنتهية بهمزة وضمير، ما يوحي بـانغلاق العالم حول ضمير المتكلم والمخاطب، وتكرار الإحالات على الذات.
خاتمة الدراسة: العاشق كمجاز للذات المتشظية:
إنّ قصيدة "مَتاهَة النَّفْسِ والعِشْقِ المُعتذر" ليست مجرد قصيدة حبّ، بل تمثيل شعري لأزمة الذات المُحبّة في عالم لا يمنح اليقين.
هي سيرة وجدانية للقلق، للانتظار، للخيبة المتحضّرة، للحنين المشوّش، وللرغبة في لغة تبرّر العواطف دون الحاجة لبرهان.
القصيدة، في نهاية المطاف، مرآةٌ لذواتنا حين تُحبّ بشراسة، وتخاف بشراسة، ثم تكتب، لا لتشفى، بل لترى نزفها في اللغة، وتحتمله من جديد.
***
بقلم: عماد خالد رحمة – برلين
.............................
مَتاهَةُ النَّفْسِ والعِشْقِ المُعْتَذِر
شُعوري تُحرِقُ الأنفاسَ نارُهُ
يُغَبِّشُ أوضحَ الرُّؤيا غِمارُهُ
عَنيدٌ، لا يُؤرِّقُهُ اعتِبارٌ
بأنَّ مَواجِعَ العُشّاقِ غارُهُ
غريبٌ حينَ أَصْدُرُ عنهُ جَهْرًا
وبَيْنَ الكَبْتِ والنَّجوى جَهارُهُ
على شَطِّ المَجازِ يعيشُ قلبٌ
سَفِسطائيَّةُ المعنى مَحارُهُ
يُغنِّي لُؤلُئيَّ الصوتِ شِعرًا
تَضِنُّ على الفراهيديّ بِحارُهُ
لهُ في كُلِّ بارقةٍ صعودٌ
ليَبلُغَ قُبّةَ الشِّعرى مَدارُهُ
إذا ما مَدَّ موجَ العِشقِ لَيلًا
أتى بالجَزرِ، والشَّكوى نَهارُهُ
أدينُ بسُكّرِ اللُّقيا لكرمٍ
فريدٍ، لا يُحلّيه اختِمارُهُ
ولي من رَقصهِ الباكي قُطوفٌ
أُجمِّعُها إذا حانَ اعتِصارُهُ
تَحَمَّضَ في خَوابي الخوفِ لَمّا
بَدا جهرًا على شَفَتي انتِصارُهُ
وعانقني بحضنٍ سرمديٍّ
ولم يَحفِلْ بماضي البُعدِ ثارُهُ
ولمَّ الشّملَ فوقَ شتاتِ نفسي
يُزيّنُ كُلَّ ما فيها انبهارُهُ
هو السُّبّورةُ الأنقى وأبدو
كطبشورٍ يُخَرمِشُهُ حوارُهُ
هيَ الخَلَواتُ تَملأنا جُروحًا
ليَقطُرَ مِن أظافرِها اسمِرارُهُ
ألا يا مُقلقَ الرّاحاتِ، إني
مُبعثَرةٌ، ويجمعني حِصارُهُ
وأشكوهُ لِقارئةِ الخَبايا
فَتَشتِمُ كلّما لاحَ افتِرارُهُ
عليهِ العِشقُ لم يُرسِلْ ورودًا
تسرْبَلَ في بلاغتها اعتِذارُهُ
عليهِ الشوقُ لم يَكتُبْ جَوابًا
تفرَّدَ في القراطيسِ اصفِرارُهُ
عليهِ الدَّمعُ لم يَمسَحْ برِفقٍ
عُيونًا جلُّ ما فيها غُبارُهُ
عليهِ السّاعةُ السوداءُ تَدعو
وحيدًا أن يُجلّيها انتِظارُهُ
***
سمر اليازجي