قراءات نقدية

بولص آدم: "جحيم" محمد أبو زيد.. الكتابة كفنّ الاحتراق اللطيف!

يقدم ديوان "جحيم" للشاعر المصري محمد أبو زيد صرخة جمالية في وجه العالم، سردٌ شعريّ يمتد على مساحة كثيفة من الألم والتجريب والتأمل. لا يقدّم الشاعر نصوصًا تقليدية يمكن احتواؤها في خانة “القصيدة الجديدة” وحسب، بل يذهب إلى تأسيس "سينما شعرية" داخل كل نص، مشحونة بالحركة، والقطع المفاجئ، وتراكب الأزمنة والمشاهد، مستعيرًا أدوات الصورة السينمائية والفانتازيا، وساخراً من أدوارنا الاجتماعية واليومية والتاريخية التي نرتديها على مسرح الكارثة.

منذ العتبة الأولى، يضعنا العنوان "جحيم" أمام نوع من الاختزال الوجودي الصادم، لكنّه ليس جحيماً كلاسيكياً؛ بل جحيماً عصرياً، تشكّله الميديا، وفوضى العالم، وجثث الذاكرة، وتحوّلات الهوية. جحيم مصنوع من الضحك المكسور، من تقنيات "الكولاج" الشعري، من مفارقة حادة تجعل القارئ يضحك ويبكي في اللحظة ذاتها.

الديوان ينتمي لما يمكن تسميته بـ "شعر ما بعد الكارثة"، حيث تتفكك الذوات، ويتحول الشعر إلى أداة للبحث عن البقايا وسط ركام الرماد. في جحيم، نجد ذاتًا ممزقة، مستلبة، تتماهى أحيانًا مع الأسطورة، وأحيانًا مع شخصيات من ألعاب الفيديو، أو أفلام الكارتون، أو مخلوقات من كوابيس الواقع السياسي والاجتماعي.

رسالة هذا الديوان تتجاوز الظرف الشعري أو التعبير الذاتي، نحو نوع من التحذير الناعم والزفير المعاصر؛ كأن القصائد تقول إننا نعيش داخل مشهد منهار بالفعل، وأن الشعر لم يعد نافذة أو خلاصًا، بل أداة لحفظ ملامح الرماد قبل أن يذروه الزمن. جحيم أبو زيد موجّه إلى زمننا الحاضر المشظى، وإلى مستقبل يحتاج إلى أرشيف عاطفي وجمالي يشرح لماذا سقطت المدينة، ولماذا لا تزال الأرواح تبحث عن أغنيتها في الظلام.

في قصائد مثل حروب هادئة، أنا أقوى من سلاحف النينجا، ميت يحرس الغابة، وكوروساوا خدعنا، تظهر براعة أبو زيد في بناء نص مزيج من الشعر والتأمل الساخر والنقد الثقافي، حيث تحضر الذاكرة الجماعية (الحروب، القرى، الموت، الغياب) ضمن بناء شعري شديد الخصوصية.

هذه "السينما النصية" التي يبرع في تركيبها، لا تخلو من حمولات وجودية، تأملات لاذعة في مصير الإنسان، وقلق متنامٍ حيال ما تبقّى من الحب، من الصداقة، من الحياة، في عالم يحترق بالمفارقات والغرابة والخراب.

بين قصيدة النثر والمشهد السينمائي

قصائد الديوان تكتب نفسها بمنطق «مونتاج داخلي». المشاهد لا تُروى، بل تُركّب، والقصيدة لا تُبنى بتراتبية، بل تتوزع ككادرات سينمائية. النبرة هادئة، لكن تحتها مرجل من الألم الخافت:

«لا أغنية مفضلة لي...

تمر الموسيقى من أذني اليمنى إلى اليسرى

دون أن تسقط منها قطرة واحدة.»

الذات مفككة، تتكلم تارة، تراقب أخرى، تهذي ثالثة. أبو زيد لا يكتب عن ذاته، بل يكتب بذاته، عبر منظور مكسور، يلتقط العالم من زواياه المظلمة، كما يفعل المخرج الذي يلتقط جماليات الحطام. هذه نصوص قابلة للمشاهدة لا للقراءة، تنتمي إلى ما وصفه رولان بارت بـ"نص المتعة": نص لا يُفكك، بل يُخترق، لا يُفهم، بل يُعاش.

ظلال 2019 وما قبل الجائحة

حين نُشر الديوان في 2019، لم يكن أحد يعرف أن العالم على مشارف عزلة جماعية كبرى بفعل الجائحة، لكن روح النصوص توحي بأن الشاعر كان يكتب من قلب ما بعد الكارثة. هناك نبوءة شعرية هادئة في جحيم؛ عزلة مرئية، خوف من الخارج، زمن مفكك.

«صيدليات لبيع الأيام»

«الزمن تطاير كأوراق الرزنامة»

«كل من قابلتهم... تحدق فيّ الآن، وتحاصر البيت»

هذه العبارات تشي بتيه زمني، وفقدان تام لمرجعية الواقع. الشاعر هنا لا يرثي فقط، بل يوثّق انزياح المعنى، حيث يتحوّل الزمن إلى سلعة، والعلاقات إلى مؤثرات صوتية، والحياة إلى شاشة بلا صوت.

السينما: خيال لا استعارة

خيال محمد أبو زيد السينمائي ليس مجازًا، بل بنية تفكير. الديوان مكتوب بعدسة مخرج، لا قلم شاعر. نقرأ مشاهد حية، مكتملة العناصر:

«أدخلها من السقف، ثم أبنيه فوقنا

تغني حتى تطير الغرفة مثل بالون...

نضع أيدينا على الجدران الزجاجية

ونتأمل في انبهار ملايين النجوم في الخارج»

وفي مشهد آخر:

«أرسلت إليك غرابًا يحمل وردة...

اعتذاري يجرّ جثة خلفه»

هذه الصور لا تعتمد على المجاز اللغوي التقليدي، بل على البصري الخالص. نكاد نرى اللقطات تتحرك أمامنا. القصائد تتحول إلى cut scenes، ومجموعة متسلسلة من اللقطات المأخوذة بكاميرا قلقة، تلتقط التفاصيل وتغوص في مشهدية الأشياء.

نموذج آخر: "ميت يحرس الغابة"

«أنا الميت الذي يحرس الغابة

يرتدي قبعة الشرطة

ويكتب تقاريره بالنار

كل مساء أعدّ عدد الأشجار

أرسم وجوهها وأبتسم

أشجار ترتدي أحذية مطاطية

ولا تخرج من الأرض إلا بإذن»

هنا، لا نشاهد فقط مشهدًا شعريًا، بل نتابع افتتاحية فيلم سوداوي يبدأ من الغرابة وينتهي في التأويل الوجودي. الميت يرتدي زيًا نظاميًا ويحرس أشجارًا لها وجوه وأحذية. هذه المشهدية لا تتوسل الرمزية المباشرة، بل تعمل وفق خيال بصري فانتازي، تستعير من الرسوم المتحركة ومن أفلام ديستوبية الطابع، لخلق سينما شعرية داخل القصيدة.

سخرية وجودية وصوت من الهامش

بدلًا من صوت شعري مباشر أو نبرة احتجاجية، يقدّم أبو زيد في جحيم صوتًا داخليًا لا يكترث للنجاة، بل يراقب الخراب ويصفه، كما يفعل سارد في فيلم وثائقي عن نهاية العالم:

«كوروساوا خدعنا»

«طفل يعبر خلف أليس إلى بلاد العجائب»

«البيت فوقي تتهدم حيطانه حتى تصبح هرمًا، ليس أكبر من خوفو ولا أصغر من منقرع»

هذه العبارات تحمل طابعًا ساخرًا وغرائبيًا في آن. لا يوجد مركز، ولا بطل. بل فقط ذات مهشّمة تحاول أن تقول: «أنا موجود، ولو على الهامش».

نهاية مفتوحة على رماد

جحيم لا يُغلق أبوابه، بل يفتحها على مساحة من التأمل المتوهج. الشاعر لا يقدّم عزاءً، ولا يحاول بناء جسر للهروب من الألم، بل يمكّن القارئ من العيش داخله، كأن النصوص تقترح علينا: «كن شاهداً. لا أكثر. لكن كن حاضراً».

هذه القصائد تشتبك مع كل شيء: مع الغابة التي لم يدخلها الشاعر لكنه كتبها، مع الطفولة التي تنقلب إلى منطقة أشباح، مع "الديناصورات" التي تغزو الشعر وتدير الندوات، مع الحروب التي يخرج منها الفلاحون ليحصدوا أرواحهم، ومع القرية التي لم تعد سوى رأسه المحفوظ في "النيش" ليتلو عليه الضيوف الفاتحة.

الرسالة الأعمق التي يتركها أبو زيد بين السطور أن الشعر في زمننا ليس ترفًا، بل مقاومة ناعمة. أن الذاكرة تحتاج إلى أشكال جديدة لحفظ الألم، وأن الشاعر، في النهاية، ليس شاهدًا على الواقع فقط، بل هو من يعيد ترتيب رماده بصيغة يمكن أن يتنفسها المستقبل.

محمد أبو زيد، صاحب مشروع أدبي متجدد، تتقاطع فيه الحساسيات الشعرية الحديثة مع خيال بصري حاد، وسخرية وجودية لاذعة، ووعي عميق بالهشاشة المعاصرة. كتب في الشعر والرواية والنقد، ويمتاز صوته الأدبي بفرادته، لا يسكن في يقين، بل يكتب من مناطق الشكّ، ويقيم في تخوم اللغة، بين الحلم واليومي، بين الضوء وظله.

جحيم، يتجاوز كونه ديوانًا شعريًا فحسب، إلى أن يؤرشف روح معاصرة أنهكها التيه، وسيناريو مفتوح لقصائد قادمة تكتبها الحروب الصغيرة داخل كل بيت، وكل سرير، وكل شاشة.

***

بولص آدم

في المثقف اليوم