قراءات نقدية

عبد الكريم الحلو: الطفُّ.. ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى

تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة فلسفية في بنية الفجيعة / الاديب والشاعر يحيى السماوي

(١) القراءة النقدية الاولى: الطفُّ.. ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى:

 في هذه القراءة النقدية المركبة سأحاول أن أغوص في اعماق الجرح المفتوح، واحلل كربلاء الطف لا كحدثٍ تاريخي، بل كـ ميتافيزيقيا المنازلة الكبرى، حيث الاصطفاف لم يكن بين سيوف ودروع، بل بين النور والعدم، بين الإنسان والوحش، بين الله والفراغ.

 اذن، لنقترب، لكن بحذرٍ شديد.. فكربلاء ليست نصًا يُقرأ، بل نارٌ تُكوى بها الروح، وصوتٌ لا يزال ينادي:

 “ أما من ناصرٍ ينصرني؟ "

 لذلك لم تكن كربلاء أرضًا فحسب، بل كانت المِحكّ الأخير لإنسانية الحسين وصدقه لمبادىء دينه الحنيف.

 رأيت في الطفِّ، الحسين (ع) لم يكن رجلًا وحيداً خرج لطلب الإصلاح …بل كان الكون نفسه يُعيد تعريف ذاته، وكانت القيم تتعرّى أمامه لتظهر على حقيقتها:

 مَن الذي بقي مع الله؟

 ومَن الذي باع دينه بدرهمٍ ؟

 أو من باع دينه بخوفٍ أو بحقدٍ دفين؟

 أيّ وجعٍ أعمق من أن ترى وليدًا يُذبح على صدر أبيه، لا لذنبٍ جناه، بل لأن السيف خاف من بكاء الطهر؟

 أيّ مأساةٍ أفجع من أن تُسبى بنات النبي، والناس يهلّلون في الأسواق؟

 كشاهدنا في الطف، لم تكن هناك رايتان، بل ميزان: ميزان الدم والمعنى.!

 لذلك لم تكن في الطف مناطق رمادية أما أبيض وهو الفوز العظيم وأما أسود وهو عار التاريخ الى يوم الدين.

 ما وقف الحسين وحيدًا، ليشرب من كأس الفناء، إلا لكي لا تموت الكرامة ولا يضيع الدين، فقدم أطفاله واولاده واخوته واصحابه قرابين، كي لا يُذبح الضمير في مهده، ويعيش الطغيان.

 إن ما حدث في الطف لم يكن “معركةً” فقط، بل كان “انقلابًا كونيًا” سقطت فيه الأقنعة، وارتقى فيه الحسين من جسدٍ إلى فكرة، ومن دمٍ إلى خلود.

 ولذلك وثق المؤرخون ان كربلاء لم تكن حدثًا في التاريخ فحسب، بل هي لحظة انثيالات وجودية تتكرّر كقدر، وتستحيل رمزًا للتراجيديا الإنسانية في أقصى تمثّلاتها الأخلاقية والميتافيزيقية.

 من هذا الأفق نلج إلى قراءة النصوص الحسينية لا كأدب رثائي، بل كأدب فلسفي يعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان، والألم، والحق، والمطلق.

 في هذه القراءة، نقرأ تراجيديا الفجيعة الحسينية بوصفها محرقةً للمعنى بمعناه الأخلاقي في مواجهة العبث، وقيامةً للدم بوصفه المعادل الرمزي لثورة الوعي الأخلاقي والروحي.

أولاً: من الرثاء إلى الفلسفة..

تحوّل النصّ الحسيني:

 يمثّل الشعر الحسيني منذ بداياته، خصوصًا في العراق، امتدادًا لفكر الثورة الماورائي، حيث يتقاطع فيه:

 المأساوي بالديني، والتاريخي بالميتافيزيقي، والواقعي بالرمزي.

 وفي قلب هذا التحوّل، يتحوّل الرثاء من بكاء إلى احتجاج جمالي، ومن دمعة إلى بنية إدراكية للمعنى.

 الشاعر يحيى السماوي هنا لا يرثي ميتًا، بل يستحضر القضية بوصفها مرآةً للوجود الإنساني المأزوم.

 في قصائد الطفّ الحديثة، ومنها قصيدة (شكوى حسينيٍّ تأبّد حزنه)، للشاعر الكبير يحيى السماوي نشهد استدعاءً فلسفيًا للحسين بوصفه صورة الحق الكامل، لكنه أيضًا صورة الإنسان في أقصى تجلياته.

ثانيًا: تراجيديا محرقةُ المعنى:

فلسفة المعنى في الطف:

 حين يواجه الإنسان فجيعة تُجهض كل قوانين العدل، فإن السؤال لا يكون عن الحدث، بل عن “معنى الحدث”. الطفّ بهذا المعنى هو سؤال الإنسان الأزلي:

 هل للحقّ جدوى في عالم تحكمه السيوف؟

 وهل يستحقّ المعنى أن يُذبح لأجل أن يبقى؟

 في الطفّ، أُحرِق المعنى مرّتين:

 مرّة عندما خُذل الحسين،

 ومرّة حين قُتل وهو وحده يصلي

لضمير الكون.

لكن هذا الحرق ليس موتًا، بل هو نفيٌ للزيف. فالمعنى لا يولد إلا من النار. من هنا، تتحوّل الفجيعة إلى محرقة كاشفة، لا للمظلومية فحسب، بل لهشاشة النظام الأخلاقي الذي يسكت عن الجريمة.

ثالثًا: قيامة الدم حين يصير الجسد لغةً أبدية

فلسفة الدم كرمز للثورة الوجودية:

 في الأدبيات الدينية، الدم رمز للتضحية، لكنه في الفاجعة الحسينية تحوّل إلى خطاب فلسفي قائم بذاته. فالدم الحسيني لا ينزف عبثًا، بل يعلن عن قيامة المعنى.  إن كل قطرة دم في كربلاء هي “بيان ثوري” على صمت الضمير الإنساني، ولذلك فهي لا تجف، ولا تنسى.  من هنا، يصبح الدم في شعر الطفّ علامة على الحياة لا على الموت، وعلى الحضور لا على الفناء. هو حضورٌ أبدي في ضمير اللغة والتاريخ.

رابعًا: تراجيديا الاختيار..

فلسفة القرار في مواجهة الحتم

 يُنظر إلى كربلاء أحيانًا بوصفها فاجعة مفروضة، لكن الشاعر الحسيني السماوي يرى فيها قرارًا وجوديًا – ميتافيزيقيًا.  فالحسين لم يُسق إلى المعركة، بل اختارها. وهذه الفكرة تضعنا أمام جوهر التراجيديا:  أن تكون قادرًا على النجاة، ومع ذلك تختار الهلاك، فقط لأنك لا تحتمل الحياة دون معنى.  وهنا تتقاطع الفلسفة الوجودية مع الطفّ. الحسين يشبه سقراط، لكن أكثر منه قربًا للسماء. ويشبه بروميثيوس، لكن دون أن يسرق النار، بل يصير هو النار.

خامسًا: تراجيديا الجمال حين يكون الألم شعرًا

في شعر الطفّ، لا نقرأ بكاءً فقط، بل جمالًا غريبًا متعالياً، يقدّس الألم لا بوصفه عجزًا، بل بوصفه شكلاً ساميًا من أشكال البقاء. الألم هنا ليس عاطفة، بل بنيةٌ شعرية وفلسفية تنقذ الإنسان من تفاهة الحياة.

 إن النصّ الحسيني يعيد تعريف مفاهيم: القوة، الصبر، الجمال، الوفاء، البطولة، الموت على حق.  وهكذا، فإن تراجيديا الحسين ليست عن القتل، بل عن البقاء، ليست عن القبر، بل عن القيامة.

خاتمة:

 “الطفّ” هو المأساة التي صنعت حضارةً أخلاقية. كل قطرة من دم الحسين كانت نبيًّا صغيرًا،  وكل دمعة هي يقظة جديدة في ضمير العالم.  من هنا فإن التراجيديا الحسينية ليست مجرد موتٍ جميل، بل قيامة مستمرة للمعنى في وجه العالم المتوحش.

 لقد اختار الحسين أن يكون هو اللغة حين خرست الكلمات، وأن يكون هو النور حين عميت البصائر، أن يكون هو المعنى حين صار العالم خواءً.  وها نحن، بعد ألف عام، لا نزال نحبو في رُكبه… شاعرين… أو حزانى… أو مندهشين.

(٢) القراءة النقدية الثانية: تراجيديا محرقةُ المعنى وقيامةُ الدم.. قراءة في البنية الفلسفية والرمزية

واقعة كربلاء ليست مجرد حادثة تاريخية ولا معركة بين فريقين، بل هي حدث أنطولوجي يتجاوز الزمان والمكان، ينطوي على أبعاد ميتافيزيقية ورمزية ووجودية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمقدّس، بين الدم والحق، بين الموت والحياة.  في “الطف” لا نقرأ التاريخ فقط، بل نقرأ سؤال الإنسان عن جوهره، عن قيمه، عن حدود صموده حين تكون العدالة ذبيحة، والإيمان محاصرًا بالسيوف.

أولاً: الطف كحدث ميتافيزيقي

1. تحوّل المأساة إلى رمز كوني

الطفُّ ليس مجرد ساحة حرب، بل هو محراب تجلّت فيه العدالة الإلهية عبر الدم الطاهر، حيث تصبح المنازلة بين الحسين ويزيد صراعًا بين:

- النور والظلام

- الحق والباطل

- الخلود والزوال

 هنا يتجاوز الإنسان جسده ليصبح فكرة، ويتحوّل الاستشهاد إلى معراج وجودي.

2. كسر نواميس الواقع:

في كربلاء، لا تسير الأشياء وفق نواميس الواقع، بل وفق جدلية القداسة والامتحان. الحسين يسير إلى الموت طواعية، لا هربًا منه، بل ليُميت موت المعنى، ويحيي قيمة الرفض الأبدي للظلم.

ثانيًا: الوعي الحسيني كفعل حرية

1. الحسين و”القرار الحر”

الحسين لم يُجبر على القتال، بل اتخذ قراره بوعي كامل، رغم إدراكه النتيجة المأساوية. هنا تتجلى الفلسفة الوجودية في أبهى صورها: “ما خرجتُ أشِرًا ولا بطرًا، بل لطلب الإصلاح في أمة جدّي”.  في هذا الموقف يعلن الحسين أن الإنسان لا يُعرّف بما يحدث له، بل بما يختاره عن وعيٍ وإيمان.

2. ثنائية (الذات – المطلق)

يذوب الحسين في المطلق الإلهي حتى يصير فعله امتدادًا للمشيئة العليا، وتصبح المعركة عبورًا نحو التوحّد مع المعنى، لا نصرًا دنيويًا.

ثالثًا: أبطال كربلاء كرموز فلسفية

العبّاس – الفروسية المطلقة

يمثّل العبّاس الفارس الذي لا يقاتل ليَقتُل بل ليَمنع القتل. هو رمز للفداء الخالص، حيث يبلغ ذروة العطش ليمنح الماء لغيره.

زينب – فلسفة الصبر والصوت المقاوم

بعد المذبحة، تتجلى زينب كضمير ناطق للتراجيديا، فتتحوّل من أنثى في منفى الألم إلى فيلسوفة وجودية تحاكم القتلة وتؤرّخ للحقيقة.

رابعًا: ميتافيزيقيا الدم وقيامة المعنى

الدم كقيمة وجودية:

الدم في كربلاء لا يُراق عبثًا، بل يتحوّل إلى لغة صوفية، يُكتب بها التاريخ المقدّس، ويُرسم بها وجه الحريّة.

القيامة الرمزية

كل سنة تعود كربلاء لا لأنها لم تنتهِ، بل لأنها تحوّلت إلى رمز خالد: كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء. هنا تصبح الذكرى مقاومة دائمة ضد كل طاغية.

خامسًا: التراجيديا الفلسفية:

واقعة الطف لا تُختزل بالحزن بل تتجاوزه إلى تراجيديا فلسفية ينتصر فيها الموت الشريف على الحياة الذليلة. بهذا تصبح المأساة حسينية لأنها تُوقظ المعنى فينا، وتُعيد تعريف مفردات البطولة والكرامة.

خاتمة: كربلاء ليست ذكرى نحييها، بل فلسفة نعيشها. وهي منازلة بين الوجود والعدم، بين الروح والسلطة، بين المعنى والفراغ.  الحسين لم يمت، لأنه لم يكن جسدًا فقط، بل كان حقيقة تمشي على الأرض، و”الحق لا يُهزم حتى لو انكسر الجسد”.  وحدهُ الحسين، كان يعرف أن الطريق إلى كربلاء ليس ممهدًا بالنصر، بل مفروشٌ بجثث الأحباب، وصرخات الأطفال، وعطش الرُضّع، وغصة النساء.  لكنه سار… لأنه كان يعلم أن المعنى لا يُكتب إلا بالدم، وأن القيم لا تُبنى إلا على رماد الأجساد الطاهرة.  في الطفّ، لم تكن المعركة بين جيشين، بل بين السماء وكل ما هو دونها.  كان الحسين لا يقاتل فقط سيوف الطغيان، بل ينازل الفراغ الأخلاقي الذي اجتاح أمة كانت يومًا تهتف: “نحن أنصار محمد !.  وها هي اليوم الطف تسحق قلب ابن محمد. الطفُّ ليست مأساة فقط، إنها سؤالٌ مفتوح على الزمن.  كربلاء ليست جرحًا قديمًا يُبكى، بل جرحٌ حيّ يُفتح كل يوم، في صمتنا عن الظلم، في سكوتنا عن الذل، في كل مرة نضعف فيها أمام القهر.  الحسين لم يمت، لأنه قرر أن يموت ليحيا. وها نحن، بعد أكثر من ألف عام، ما زلنا نبكي…لا لأن الحسين مات، بل لأننا لم نعد نملك شجاعة الحسين، ولا يقين الحسين، ولا حب الحسين للحق.

فيا دم الحسين خذنا إليك لعلنا نغتسل منك، ونولد من جديد.

شكر وامتنان للشاعر الكبير يحيى السماوي أيها الشاعر النبيل… في زمنٍ أضحت فيه الكلمات باردةً كالحجارة، بعثتَ من وهج الولاء قصيدةً حسينية دافئة، ناحت فيها الروح قبل الحروف، واستصرخت الوجدان قبل الأوزان.

أشكرك جزيل الشكر على هذا النزف الطاهر، الذي لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع، ولا يُلقى على الورق بل يُسجّل في الضمير. لقد أعدت للحرف قدسيته، وللرثاء طهره، وللثورة معناها النبيل. قصيدتك ليست نصاً يُقرأ، بل طقس ولاء يُمارس، ومحراب عشق يُصلى فيه. دمتَ منارة من منارات الأدب الحسيني الرفيع، وراية مرفوعة في سماء الحق والجمال. دمت بهذا الألق الجميل.

***

الناقد الدكتور عبد الكريم الحلو

...................

للاطلاع على القصيدة

يحيى السماوي: شـكـوى حُـسـيـنـيٍّ تـأبَّـد حـزنـه

في المثقف اليوم