قراءات نقدية

رزق فرج رزق: في جماليات التلقي.. نسرين المؤدب تكسر جدار الخيال

رحلة في عوالم "تسلا" و"آتيكا" حيث يصبح القارئ بطلاً

رؤية في رواية (الخرزة الزرقاء)

مفتتح: مشروع روائي غير مسبوق

في مشروعها الروائي المتكامل، تقدم الأديبة التونسية نسرين المؤدب تجربة أدبية فريدة تختبر فيها أعمق أسئلة الوجود الإنساني عبر خمسة نصوص متصلة الحلقات، لا يقتصر دور القارئ هنا على متابعة الحكاية فحسب، بل يتحول إلى شريك فعال في فك شفرات النص وإعادة تشكيل معناه، في رحلة تجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدبي.

انزياح سردي ينهض بالرواية العربية

تتفرد المؤدب باستخدام الانزياح السردي كأداة فنية رئيسية، حيث تنتقل ببراعة فائقة بين أصوات سردية متعددة (زهرة، الأفاتار، شادي، أمون) وأزمنة مختلفة، محطمةً بذلك قيود التسلسل الخطي التقليدي، هذا الانزياح المتقن ليس تقنياً بحتاً، بل هو انعكاس عميق لتشظي الوعي الإنساني المعاصر في عصر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.

من خلال هذه التقنية، تخلق المؤدب تجربة تلقي تفاعلية استثنائية، تضع القارئ في حالة حوار دائم مع النص، حيث يصبح شريكاً في عملية الاكتشاف والتأويل، فالقارئ لا يستهلك النص بل يشارك في بنائه، مما يعيد تعريف العلاقة التقليدية بين المبدع والمتلقي.

ثيمات وجودية تلامس أعماق الإنسان

تغوص المؤدب في ثيمات عميقة تشكل جوهر الوجود الإنساني المعاصر، مقدمةً إياها عبر عوالمها المتخيلة بطريقة تجمع بين الرمزية والواقعية:

- أزمة الهوية: تطرح إشكالية الهوية في عالم ما بعد الإنسانية من خلال تحول الأفاتار من كيان رقمي مجرد إلى كائن جسدي يشتهي ويتألم، في استعارة قوية عن رحلة كل إنسان في التقبل الجسدي والنفسي.

- سلطة الذاكرة: تتحول الذاكرة من مجرد أرشيف شخصي إلى سلاح مقاومة ضد أنظمة القمع التي تسعى لمحو الهوية والفردية، حيث تصبح الذكريات جيوباً من النور في عالم الظلام.

- الحب كقوة مقاومة: يتحول الحب من مجرد عاطفة إلى قوة مقاومة أخيرة في عالم يفقد إنسانيته تدريجياً، يتخذ أشكالاً مشوهة ومأساوية أحياناً.

عالم ديستوبي كمرآة للواقع المعاصر

من خلال عوالم "تسلا" و"آتيكا" المتخيلة، تقدم المؤدب نقداً لاذعاً وحاداً للأنظمة الشمولية والرأسمالية المتوحدة، حيث تذوب الفروقات الطبقية في بوتقة البؤس المشترك، ويصبح الصراع من أجل البقاء هو المحرك الوحيد للوجود.

تكشف المؤدب كيف تتحول اليوتوبيات المزعومة إلى ديستوبيات قاتمة، حيث تقدم "تسلا" ليس كجنة متخيلة بل كجحيم منظم ونظيف، تضحكاته صفراء ودموعه جافة، هذا العالم المرعب يصبح مرآة عاكسة لواقعنا المعاصر بكل تناقضاته وأمراضه.

رمزية ثرية تغني التجربة الأدبية

تتفرد المؤدب في استخدام رموز غنية بالدلالات والإيحاءات، تحول النص من مجرد سرد إلى عوالم متعددة الطبقات:

- الخرزة الزرقاء: تتحول من مجرد تذكار بسيط إلى رمز شامل للذاكرة والمقاومة والأمل، حاملةً في زرقتها أسراراً وجودية تتجاوز الزمان والمكان.

- بنك الماء الخلوي: يجسد استغلال الأنظمة للطاقة البشرية حتى آخر قطرة، في استعارة مروعة للاستغلال الرأسمالي المتفاقم.

- الأفاتار: يمثل صراع الإنسان الحديث مع هويته في العصر الرقمي، وانزياحات العلاقة بين الواقع والافتراضي.

لغة شعرية تجسد تناقضات الوجود

تمتلك المؤدب لغة شعرية متميزة تتنقل بمهارة بين الرقة والعنف، الواقعية والخيال، التناغم والتناقض، هذه اللغة المتعددة الأبعاد تنقل القارئ إلى حالات نفسية متضاربة تعكس صراعات الشخصيات وتعقيداتها.

تتحول اللغة عندها إلى كائن حي، تنبض بالألم والأمل، بالحقيقة والوهم، مخلخةً بذلك الحدود التقليدية بين الشعر والنثر، بين الواقعي والمتخيل.

جماليات التلقي: من المتلقي إلى الشريك

تضع المؤدب مفهوم التلقي الأدبي في بؤرة، محولةً إياه من عملية سلبية إلى تجربة تفاعلية غامرة، القارئ هنا ليس متلقياً سلبياً، بل هو:

- مستكشفاً لعوالم غريبة وغرائبية

- محققاً يحاول فك شفرات النص المعقدة

- فيلسوفاً يواجه أسئلة وجودية مصيرية

- ناقداً يشارك في تفكيك الانزياحات السردية

صوت أدبي جريء ومهم

تمثل نسرين المؤدب صوتاً أدبياً جريئاً ومهماً في المشهد الأدبي العربي، تقدم من خلال مشروعها الروائي المتكامل رؤية نقدية عميقة وشاملة لأزمات الإنسان المعاصر، هي لا تروي حكايات فحسب، بل تبني عوماً موازية تصبح مرايا عاكسة لواقعنا.

بجرأة فنية ونفسية نادرة، تضع المؤدب قارئها وجهاً لوجه مع أكثر أسئلة الوجود إزعاجاً وإلحاحاً، دون أن تقدم إجابات جاهزة أو حلولاً سهلة، هذا العمل الذي يجمع بين العمق الفلسفي والجمال الأدري، بين النقد الاجتماعي والتأمل الوجودي، يضعها في مصاف المبدعات العربيات اللواتي يقدمن إضافات نوعية للأدب .

مشروعها ليس مجرد عمل أدبي، بل هو "خرزة زرقاء" ضد النسيان واليأس، شهادة على قدرة الأدب على مواجهة أعتى التحديات وأصعب الأسئلة، وتذكير بأن الكلمة تبقى في النهاية سلاح المقاومة الأقوى والأبقى.

***

رزق فرج رزق . ليبيا

في المثقف اليوم