قراءات نقدية

سعد الدغمان: هايكوات "سعد جاسم".. رمزية مفعمة بتشكيل متقن للحب

قدم سعد جاسم (هايكواته)* برؤية عالمية، حين جاء بعنوان واسع الأفق، مفتوح على اللانهاية، عميق الدلالة والأثر، قد يفهم منها أوجه عدة، ربما إنسانية او عوالم داخلية أو حتى أن يكون المقصد الحياة اليومية وما تحمله لحظاتها من معاناة وألم.

أجاد سعد جاسم حين أبقى أفق العنوان مفتوحاً دون تحديد، فالعالم واسع وتأويل الكلمة أوسع، وقد تحتمل الكثير من الأوجه والصور، إلا أن ما ضمنه جاسم في عنوانه أو المضمون حقيقة شيء مدهش ومعبر بشكل متقن وفنية شعرية عالية، اعتدناها في نصوصه بشكل دائم.

بأناملِها الرهيفةِ البيضاء

تُدوْزنُ سوناتاتِ الحبِّ

عازفةُ البيانو

ذهب منها سعد جاسم ليجسد رمزية معبرة، وتصور مفعم بالشاعرية يلامس نبل المشاعر ورقتها التي شدت بها صاحبة البيانو بوصلتها الموسيقية الحالمة، حباً وألفة تترسخ في مخيلة القارئ لما تشدو به موسيقاها من خلال (أناملها) الرقيقة تكتب سوناتات (الحب)، نص رائع كرسه سعد للتركيز على الأنوثة والرقة، ما يخلق انطباعًا مرهفًا لما كرسه من كلمات ل"عازفة البيانو" وصفاتها الأنثوية الرقيقة.           

أراد سعد أن يكرس رمزاً للحب عبر ألحانها، والمجازية في تصوير ذلك الحب عبر المعزوفة التي أتقن تركيب أجزائها، فظهرت على شكل أصر من خلاله أن يُحمله ما اعتراه من مشاعر وأحاسيس. رصد سعد جاسم ذلك التشكيل الرائع للحب، والذي يخلق من الصورة شكلاً فنيا عبر النص ليعبر عما فيها من مرهف جسده جاسم برقة العازفة وعاطفية المشهد عبر الرمزية التي شكل منها ذلك "الهايكو".

على أديمِ جلدهِ

يرسمُ لوحاتِ بلادٍ تحترق

رسامٌ موجوع

وفي هذه قد يَدهش سعد جاسم قراءه بما ضمن نصه من أبعاد فنية طاغية بالألم، حتى أحال (الهايكو) إلى صورة إنسانية تحتمل أوجهاً قد تختلف في مضمونها، فهي غاية في الإنسانية حين ينشد القارئ التعاطف، وهي ذات بعد أخر حين ننظر لها من وجهة ثانية، فهي تحمل دلالات اجتماعية، سياسية، نفسية تترك آثارها على شكل الصورة التي تعبر عن التماهي الذي تتداخل فيه المعاناة التي يشعر بها الفنان، وهي تعبير عن تجسيد الألم وتغلغله في الروح.

وفي لوحاته التي تحترق، ترجمة لما تعاني الإنسانيه منه جراء الحروب والطغيان والأستبداد الذي يسود العالم بلا رحمة، فيأتي الفنان ليكرس هذا كله في لوحاته التي يرسمها بلون الألم. وهي تمثيل لما جاء به سعد ختاماً للنص، وكأنها جواب لمن يقدم سؤالاً مفاده من ذاك الرسام، فيجيبه (رسام موجوع).

أراد سعد جاسم أن يكون الهايكو الذي كتب، مرآة لما تعاني منه الإنسانية من خراب ودمار وألم شخصي، فجعل نصه "صرخة" مدوية في سماء الآلام التي يرسمها بألوان مختلفة.

في غروبِهِ الحزين

يموسقُ خيباتِ حياتهِ

عازفُ الناي

هي مرحلة أراد سعد أن يشير لنهايتها (غروبه الحزين)، وأظن أنه لم يقصد الغروب بمعناه الحرفي، بقدر ما اراد منه التعبير عن الحزن كتشخيص نفسي لتداخل هذا الوقت بشجن يعتلي النفس، ويخلط بين مايمثله الغروب، والحزن العميق الذي يعتلي النفس ساعة ذلك الحدث، وكأنه تجسيد لمعاناة شخصية.

ترادف الصور والكلمات يغني النص، سواء في النصوص الشعرية المعتادة، أو حتى في هايكوات سعد جاسم، وهنا جاء بترادفات مقتضبة لصور بذاتها داخل فيها الحزن بالغروب، والموسيقى بالخيبات، وذهب ليوظفها بصورة شخصية، فأضفى عليها "حياة" عازف الناي. بدا مشهد الهايكو وكأنه شخصي، يتعلق بخيبات عازف الناي التي أظهرها، أو فضحها الغروب، والناي تعبير عن عمق الحزن الذي كان عليه العازف.

بدمهِ المشتعلِ قهراً

يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب

الشاعرُ العراقي

وفي هذه الصورة التي وظفها سعد جاسم بالدلالة اللفظية، لتشكل تحديداً دلالياً على شخصية معينة دون سواها ( الشاعر العراقي)، أطر صورته الشعرية بصفات قد لاتتوفر في غير (الشاعر العراقي) الذي منحه بطولة المشهد بالكامل، ووصف عمله بالذي (يكتبُ قصائدَ الدمِ والخراب)، وهذه كناية سبق وأن قلنا فيها تعبيراً عن الحروب والدمار، هذا الوصف يكتب عنه (بدمه المشتعل قهراً)، تعبير مهول لوصف حالة الكتابة وتمخضاتها في ظل مثل تلك الأوضاع القاسية المميتة.

هي تعبير دقيق عن ما عانى منه مجتمع بكامله، ومنهم الشعراء كشريحة اجتماعية عاشت وعانت تجربة الحرب وما نتج عنها من خراب ودمار، شكل هاجساً لجراح نازفة تفضي إلى مجتمع يعاني من غضب مكبوت وآثاراً للدم، فالشعر ليس رومانسية فقط، بل هو تعبير عن معاناة جمعية على المستوى الشخصي والوطني. نص مشحون بالعاطفة، وهذه ليس بالضرورة أن تكون تعبيراً عن حب، بل ربما تطغى المعاناة فيها على ما سواها، كما في نص سعد جاسم.

في مساءاتِ الوحشةِ

يدندنُ على اوتارِ قلبهِ

عازفُ العود

(مساءاتِ الوحشةِ) تعبير عن وحدة أليمة وعزلة تامة، طغى فيها الحزن على شكل النص، لم يجد صاحبها وسيلة للتعبير إلا من أن يناجي نفسه، فالوقت موحش يبعث على الحزن العميق حين تكون الوحدة نمطاً للحياة، فيشتعل الحنين في ثنايا الليل القادم ليخلق أوقاناً لايمضي فيها الوقت وسط سكون الأشياء والأوقات.

جسد سعد جاسم الإستعارة العميقة في نصه، حين قال (يدندن على أوتار قلبه)، أراد منها أن العزف ممكن على غير الوتر، ف(عازف العود) لفرط حزنه قد دندن على أوتار قلبه. وليقول أن من الممكن أن يكون الفن عزاء.

بأصابعِ قلبهِ الموجوع

يوقّعُ كونشيرتو العاصفة

عازفُ الكمان

موسيقى عاصفة هد بها سعد جاسم قوانين الفيزياء، فجاء باستعارة لفظية، طغت فيها صورة الحدث المتمثلة بالألم الموجع في القلب، ليعكس من خلالها حركة دراماتيكية أظهر منها شكلاً غير مألوف تجسيداً للألم.

جعل سعد من عازف الكمان صورة للوجع الذي تحتويه اللحظة المؤلمة ليعبر من خلال عزفه بطريقة غير معهودة، على أوتار قلبه حركة الألم العاصفة في النفس، فيحيلها لشيء أشبه بالتماهي مع الألم الداخلي المعتاد في القلب الجريح.

رأسُهُ مُحتشدٌّ بالحكايات

معماريُّ وقائعَ وذكرياتٍ وتفاصيل

الروائي

هندسة الكلمة في النص، تراتيب الذاكرة وتوظيف السرد، حين ينشأ منها الشاعر أبراجاً من حكايات وصور، تأتلف الحياة كما تتموضع بين يدي من يبني بانتظام حركة الصعود والهبوط على سلم الحياة وتقلباتها، أراد منها سعد جاسم تصوير الحياة بفنية تطغى عليها تراتيب السرد وتداخل الصور ما بين ماضيها وحاضرها، ومن خلال روايتها بأسلوب متقن.

قلبُهُ مكتظٌّ بالقهر والكدمات

حياتُهُ شريطٌ بالاسودِ والابيض

العراقي

جميل أن يذهب الشاعر لتكثيف الصور في نصه، لكن حين يكون هذا التكثيف بدلالة استباقية لما حدث، ولايهم منه أن كان بلا ألوان، فالأسود والأبيض يخدم قضية المعاناة بلا رتوش. ذهب سعد ليجسد نصاً عميقاً بما أحتواه من مضمون، وما رافقه من صور معبرة، نقل من خلالها معاناة شعب بأكمله، أختصر أوجاعهم، وأشر معاناتهم، ورسم أبعاد مأساتهم عبر ما وظف من رمزية دلالية في نصه هذا.فحين يكون الإيحاء في النص رمزاً للدلالة، فذلك يعني أن المعاناة حقيقية.

***

سعد الدغمان

.....................

*شعر ياباني، "هايكوات": جمع "هايكو"، وهو نوع من الشعر الياباني التقليدي، يتميز بالقِصر والتكثيف، ويتألف غالبًا من ثلاث سطور، يركّز على لحظة شعورية أو مشهد من الطبيعة أو الحياة اليومية.

 

في المثقف اليوم