قراءات نقدية

إبراهيم برسي: ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات

ليس في الحكاية ما يُثير الفضيحة بقدر ما يُثير السؤال: كيف يمكن للحب أن يولد عند حافة الموت؟ وكيف يتحوّل الجسد، في شيخوخته القصوى، إلى آخر محاولة لإنقاذ الروح من العدم؟

في (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) لا يكتب غابرييل غارسيا ماركيز عن الشهوة، بل عن الإنسان حين يكتشف أن رغبته الأخيرة ليست في المتعة.. بل في الحنان.

في عامٍ تجاوز فيه بطله التسعين من عمره، يقرّر أن يحتفل بعيد ميلاده كما اعتاد — مع جسدٍ جديدٍ، مأجورٍ، خالٍ من العاطفة. لكنه هذه المرّة يطلب من المعرصة "القوادة" القديمة فتاةً بكرًا، نائمة، لا تعرف شيئًا عن هذا العالم. طفلة تعمل في مصنعٍ للخياطة، تُسلَّم له كما تُسلَّم دميةً لعجوزٍ مريضٍ بالوحدة. هناك، في الغرفة الباهتة التي تشبه مسرحًا صغيرًا من غبار الذاكرة، يدخل الرجل زمنًا آخر: يجلس بجوارها، يتأمل تنفسها، يحدّثها وهي غافية، وبدل أن يلمس جسدها.. يلمس طفولته الضائعة.

تتحوّل الليلة إلى مرآةٍ للوعي؛ يكتشف العجوز أن كل النساء اللواتي عرفهن لم يكنّ سوى مرايا مكسورة لانكساره هو، وأنه لم يعش يومًا حبًا خالصًا بل سلسلةً من "الشرمطة" مدفوعة الثمن.

هنا يطلّ ظلّ فرويد من بعيد، يذكّره بأن “الرغبة ليست في الجسد، بل في ما ينقصنا”. فالعجوز لا يبحث عن اللذة بقدر ما يبحث عن المعنى، عن تلك اللحظة التي تلتئم فيها الفجوة بين الرغبة والأمومة، بين الطفلة التي كانت تسكن ذاكرته والأم التي لم تفهم ضعفه.

إن ماركيز، من خلال هذا الاشتباك بين الشيخوخة والبراءة، يُعيد قراءة نظرية فرويد عن “الحنين إلى الأصل”؛ الجسد هنا ليس موضوعًا للغواية، بل عودةٌ متأخرة إلى رحم العالم، إلى الدفء الأول الذي لم يُمنح له..

تتحوّل الرواية إلى مشهدٍ سينمائي بطيء: كاميرا تتجوّل في بيتٍ قديم تغمره رائحة الكتب والعزلة، رجلٌ هرم يمسح غبار الماضي عن الأشياء كما عن نفسه، وضوءٌ أصفر ينعكس على وجه فتاةٍ نائمة لا نعرف إن كانت موجودة أم متخيلة..

في هذا المشهد الطويل، ينهار الخط الفاصل بين الحلم والواقع، بين الجريمة والطهارة. ماركيز يوجّه عدسته إلى داخل النفس لا إلى الخارج، إلى الفجوات الصغيرة في الذاكرة حيث تختبئ الرغبات القديمة كأفلامٍ لم تُعرض بعد..

حين يبدأ العجوز في الكتابة عن حبيبته النائمة في عموده الصحفي، يتحوّل من كاتبٍ روتينيٍّ ساخرٍ إلى عاشقٍ فيلسوف. الكلمات التي كانت يومًا باردة، صارت حارّة مثل دمٍ يعود إلى شرايينه بعد غيابٍ طويل. لم يعد يكتب لقرّائه، بل ليؤكّد لنفسه أنه لا يزال حيًّا.. يتذكّر أمه، وخادمته القديمة، ونساءه الكثيرات اللواتي تجاوز عددهن الخمسمائة، فيغمره الندم لا على الخطيئة.. بل على البرود. ومع كل سطرٍ يكتبه، تتبدّى أمامه مأساة الذاكرة البشرية: أننا لا نعرف قيمة الحياة إلا بعد أن تهرم فينا، ولا نكتشف معنى الحب إلا حين يعجز الجسد عن ممارسته..

في أحد المشاهد الأكثر رمزية، يجلس بجانب الفتاة النائمة يقرأ لها بصوتٍ خافتٍ من (المدام بوفاري) و(الأمير الصغير). يتحدث ولا يسمع ردًّا، ومع ذلك يشعر بأنها أقرب من كل النساء اللواتي تحدّثن إليه.

هنا تبلغ الرواية ذروتها الوجودية: التواصل لا يحتاج إلى كلمات، والعشق يمكن أن يُولد في صمتٍ مطلق

 الحب، في فلسفة ماركيز، ليس تملّكًا بل مراقبة. كما لو أن الكاميرا تكتفي بتسجيل النَفَس، بالانتظار، بتلك المسافة بين الجسدين حيث تتكوّن الروح..

في هذا العالم الرمزي، تصبح الفتاة النائمة استعارةً للبراءة التي لم تفسدها الحياة بعد، وللمعنى الذي يتوارى حين نلهث خلف اللذة. أما العجوز، فهو تجسيدٌ لفكرة الزمن المريض: وعيٌ متأخر بأن كل ما أنفقه في المتعة كان محاولة يائسة للهروب من مواجهة الفراغ الداخلي. وكأن الرواية تقول لنا إن الشيخوخة ليست في الجسد، بل في الفقد التدريجي للدهشة.. وإن هذا العجوز حين أحبّ، استعادت روحه ما فقدته حين ظنّ أنه عاش.

يُعيدنا ماركيز في هذه الحكاية القصيرة، التي كتبها عام ألفين وأربعة، إلى جوهر الواقعية السحرية وقد أصبحت أكثر صفاءً وتأملًا: لا قرى غريبة، ولا أزمنة متداخلة، بل وعي فردٍ واحدٍ يتنقّل بين الحلم واليقظة كمن يعيد مونتاج حياته في مشهدٍ واحد.

 كل تفصيلٍ في الرواية يعمل كما في السينما — زاوية الكاميرا، الإضاءة، حتى الأصوات — ليمنح القارئ إحساسًا بأنه يشاهد فيلمًا داخليًا أكثر مما يقرأ نصًا.

قبل النهاية، يبدو الحب والذاكرة في الرواية شكلين مختلفين للمقاومة ضد الفناء. فكل تذكّرٍ هو محاولةٌ لإبقاء ما مات حيًّا، وكل حبٍّ هو إصرارٌ على أن نعيش رغم الموت الذي يتقدّم فينا.

في النهاية، حين يعلم العجوز أن الفتاة تبادله الحب، يُطل عليه النور. يشعر بأنه شابٌّ من جديد، لا لأن الجسد عاد إليه، بل لأن قلبه خرج من عزلة تسعين عامًا..

يقول كأنه يختم وصيته: “عشتُ بما يكفي كي أكتشف، أخيرًا، أن الحب الحقيقي لا يُشترى”. تلك الجملة وحدها تختصر الفلسفة الكامنة في الرواية: أن الوعي، حين يصطدم بحدود الجسد، لا يموت.. بل يبدأ.

هكذا تتحوّل (ذكرياتي مع عاهراتي الحزينات) إلى تأملٍ في هشاشة الإنسان، في بحثه الأبدي عما يفلت منه دائمًا: الحب، المعنى، الزمن.

 رواية عن المصالحة المتأخرة بين الرغبة والروح، وعن اللحظة التي يُصبح فيها النوم فعلًا مقدّسًا، والبراءة خلاصًا، والشيخوخة طفولةً ثانية.

إنها ليست حكاية رجلٍ وفتاةٍ، بل حكاية الكائن البشري في محاولته الأخيرة لتبرير وجوده. وما يبدو فضيحةً في ظاهر النص، ليس سوى محاولة لإعادة تعريف الطهارة في زمنٍ فاسد، ولإثبات أن “الحب.. هو المعجزة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ الإنسان من نفسه”.

***

إبراهيم برسي

 

في المثقف اليوم