علوم والذكاء الاصطناعي
عبد السلام فاروق: الذكاء الاصطناعي بين وهم الحياد وخطيئة التحيز
على أعتاب حقبة إنسانية جديدة
تعصف التحولات التكنولوجية المعاصرة بأسس حياتنا بصورة لم يسبق لها مثيل، حتى ليخيل إلينا أننا نعيش على أعتاب حقبة جديدة من تاريخ البشرية، تختلف في قيمها ونظمها وعلاقاتها عن كل ما عرفناه من قبل. لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تقنية محايدة، بل تحول إلى قوة اجتماعية وثقافية فاعلة تمسك بمفاصل الحياة اليومية وتعيد تشكيل الوعي الفردي والجماعي. وفي خضم هذا الزخم التكنولوجي الجارف، تطل العلوم الاجتماعية والإنسانية في بلادنا العربية بتحدياتها وإشكالياتها الخاصة، حاملة أسئلة مصيرية عن جدواها ومستقبلها في عصر الذكاء الاصطناعي.
لطالما عانت هذه العلوم في عالمنا العربي من ازدواجية مزمنة، بين استيراد النظريات والمناهج الغربية، ومحاولة فهم واقع اجتماعي وثقافي مختلف. واليوم، وفي ظل طفرة الذكاء الاصطناعي، تتعقد هذه الازدواجية وتتفاقم، مما يضعنا أمام أسئلة وجودية حول قدرة هذه العلوم على مسايرة العصر، والإسهام في تشكيله بدلاً من الاكتفاء بالتلقي والاستهلاك.
استثمار أم تبعية؟
تشهد الساحة العربية تحركات ملحوظة في مجال الذكاء الاصطناعي، وإن اختلفت سرعتها ودرجة جديتها من بلد لآخر. فالمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، أعلنت عن استثمار ما يقارب 100 مليار دولار في قطاع التكنولوجيا المتقدمة عبر شركة "آلات" التي أطلقتها عام 2024، مع تركيز خاص على الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والروبوتات، سعيا إلى أن تصبح قوة عظمى في هذا المجال . أما قطر فقد خصصت 2.5 مليار دولار كحوافز لبرامجها في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا والابتكار، مع توقعات بأن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي فيها إلى 1.9 مليار دولار بحلول عام 2030 . بينما تستثمر الإمارات العربية المتحدة 3 مليارات دولار سنوياً في الابتكار، ومن المتوقع أن يسهم الذكاء الاصطناعي بنحو 98 مليار دولار في اقتصادها بحلول عام 2030، وذلك في إطار "استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031" .
هذه الأرقام الضخمة تثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذه الاستثمارات وأهدافها. فهل تسعى الدول العربية من خلالها إلى تحقيق الاستقلال التكنولوجي، أم أنها مجرد سباق لامتلاك أدوات العصر دون فهم عميق لشروط إنتاجه؟ الواقع يشير إلى أن معظم هذه الاستثمارات تركز على الجانب التطبيقي والاستهلاكي للذكاء الاصطناعي، بينما تبقى البحوث الأساسية والجهود الرامية إلى تطوير نظريات وخوارزميات عربية الأصل في مراحل أولية، مما يعكس استمرار التبعية لمنظومات الابتكار العالمية.
إشكاليات الذكاء الاصطناعي:
الإشكالية الأولى: أزمة السياق الثقافي واللغوي
يواجه الذكاء الاصطناعي، خاصة في شقه التوليدي، إشكالية عميقة في التعامل مع السياقات الثقافية واللغوية العربية. فالنماذج اللغوية الحالية تدرب في الغالب على بيانات غربية، مما يؤدي إلى تمثيل ناقص أو مشوه للمفردات والمفاهيم ذات الخلفية العربية أو الإسلامية. والنتيجة هي مخرجات سطحية تفتقر إلى العمق الثقافي والسياقي، بل وقد تقدم تفسيرات مغلوطة للمعاني الدقيقة المرتبطة بخصوصياتنا الثقافية .
هذه الإشكالية لا تقتصر على الجانب التقني فحسب، بل تمتد إلى الأسس الفلسفية التي تقوم عليها هذه النماذج. فالذكاء الاصطناعي التوليدي صمم أساساً ليعطي الأولوية لمظهر الاعتدال والسلاسة بدلاً من ضمان الدقة المطلقة. وهذا يعني أن هذه النماذج تنتج محتوى "يبدو معقولاً" أكثر مما تنتج محتوى "صحيحاً"، وهي معضلة معرفية عميقة تمس صميم عملية إنتاج المعرفة وتطرح تساؤلات حول مدى موثوقيتها في نقل تراثنا وفهم واقعنا.
الإشكالية الثانية: التحيز الخفي وإشكالية الأخلاق
تعد الانزلاقات الأخلاقية والتحيزات غير المرئية من بين التحديات الأكثر إثارة للقلق في تطبيقات الذكاء الاصطناعي. فالنماذج التي تدرب على بيانات مأخوذة من الإنترنت أو مصادر عامة قد تعكس توجهات عنصرية أو تحيزات ثقافية مشوهة. الخطورة هنا تكمن في أن هذه الانحرافات قد تمر دون انتباه المستخدم، خاصة في المجالات التعليمية والإعلامية، مما يؤدي إلى تكريس أنماط معرفية غير عادلة .
في سياقنا العربي، تتفاعل هذه الإشكالية مع تركيبتنا الثقافية والاجتماعية المعقدة، حيث توجد هويات متعددة وتاريخ طويل من التمازج الحضاري. كيف يمكن لذكاء اصطناعي تم تدريبه على بيانات أحادية أن يفهم تعقيدات مجتمعاتنا ويحترم تنوعها؟ هذا سؤال يحتاج إلى مقاربة عربية أصيلة، تجمع بين الخبرة التقنية والحكمة الاجتماعية، وتستند إلى دراسة الجدوى الاجتماعية التي تقيم الأثر المجتمعي للمشاريع التقنية لتضمن توافقها مع قيم المجتمع .
من الهامش إلى المركز
في ظل هذا المشهد المعقد، تبرز العلوم الاجتماعية والإنسانية ليس كترف فكري، بل كضرورة حيوية لا غنى عنها. فإذا كان الذكاء الاصطناعي يقدم الأدوات، فإن العلوم الإنسانية تقدم البوصلة الأخلاقية والإطار القيمي الذي يوجه استخدام هذه الأدوات. إنها العلوم التي تطرح الأسئلة المصيرية: لماذا نطور هذه التقنيات؟ ولمن؟ وما تأثيرها على الإنسان والمجتمع على المدى الطويل؟
في العالم العربي، حيث التحديات التنموية متعددة الأبعاد، يمكن للعلوم الاجتماعية أن تلعب دوراً محورياً في توطين الذكاء الاصطناعي وتكييفه مع احتياجاتنا وقيمنا. بدلاً من استيراد النماذج الجاهزة، يمكننا تطوير ذكاء اصطناعي عربي يراعي خصوصياتنا اللغوية والثقافية، ويخدم أولوياتنا التنموية. وهذا يتطلب إجراء دراسات جدوى اجتماعية شاملة تقيم الأثر المجتمعي للمشاريع التقنية قبل إطلاقها، مما يضمن تحقيقها للتوازن بين النجاح الاقتصادي والاستدامة الاجتماعية .
الجدوى الحقيقية للعلوم الاجتماعية في عصر الذكاء الاصطناعي لا تكمن في مجرد نقد التكنولوجيا أو التحذير من مخاطرها، بل في التكامل المعرفي معها. نحن بحاجة إلى جيل جديد من الباحثين يجمع بين العمق النظري في العلوم الاجتماعية والإنسانية والفهم التقني للذكاء الاصطناعي . هذا التكامل يمكن أن يفتح آفاقاً جديدة للبحث والابتكار، حيث تصبح العلوم الاجتماعية شريكاً فاعلاً في تطوير الذكاء الاصطناعي، وليس مجرد متفرج أو ناقد.
تحديات المواجهة وآليات المواطنة الفاعلة
التحدي الأول: الهوية والأصالة
تواجه العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية تحدي الهوية والأصالة في تعاملها مع الذكاء الاصطناعي. فكيف يمكنها أن تقدم رؤى نقدية وأطراً منهجية تستند إلى تراثنا الفكري وخصوصياتنا الثقافية، دون الوقوع في براثن الانغلاق أو القطيعة مع الإنجازات العالمية؟
اليوم، وفي عصر الذكاء الاصطناعي، تتعمق هذه الأزمة وتتسع. فالنماذج المعرفية التي تقوم عليها هذه التقنيات هي في الأساس نماذج غربية، تحمل في طياتها رؤى فلسفية ومفاهيم عن الإنسان والعالم قد تتعارض مع رؤانا. المواجهة الحقيقية تبدأ من التأصيل النقدي لهذه النماذج، وفهم الأسس الفلسفية التي تقوم عليها، واقتراح بدائل تستند إلى رؤيتنا الحضارية.
التحدي الثاني: البنية التحتية والموارد
تواجه الدول العربية تحديات كبيرة في البنية التحتية والموارد البشرية المؤهلة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي. فرغم الاستثمارات الضخمة، لا تزال معظم الدول العربية في مراحل متأخرة في مؤشرات البحث والتطوير، وتواجه نقصاً حاداً في الكوادر المتخصصة التي تجمع بين التمكن التقني والعمق النظري في العلوم الاجتماعية . كما أن الإنفاق على البحث العلمي بشكل عام لا يزال دون المستوى المطلوب مقارنة بدول أخرى.
هذه التحديات تتطلب استجابة استراتيجية شاملة، تبدأ بإصلاح جذري للنظام التعليمي ليكون أكثر توافقاً مع متطلبات العصر، وزيادة الاستثمار في البحث والتطوير، وتشجيع التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث والقطاع الصناعي. كما تتطلب تطوير سياسات وطنية للذكاء الاصطناعي تراعي البعد الاجتماعي والإنساني، وتضمن مشاركة واسعة من مختلف التخصصات في صياغتها وتنفيذها.
التحدي الثالث: الفجوة الرقمية والعدالة
يشكل اتساع الفجوة الرقمية داخل المجتمعات العربية وبينها وبين المجتمعات المتقدمة تحدياً جسيماً للعلوم الاجتماعية في عصر الذكاء الاصطناعي. ففي الوقت الذي تتسارع فيه بعض الدول العربية في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، لا تزال فئات واسعة من السكان تعاني من نقص في الوصول إلى التقنيات الرقمية الأساسية، ناهيك عن التقنيات المتقدمة.
هذه الفجوة لا تقتصر على الجانب التقني، بل تمتد إلى الفجوة المعرفية، حيث يغيب الحوار المجتمعي حول الذكاء الاصطناعي وتأثيراته، وتتركز المعرفة بنخب تقنية ضيقة. هنا تبرز أهمية العلوم الاجتماعية في توسيع نطاق هذا الحوار، وضمان مشاركة أوسع للفئات المختلفة في النقاش حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في مجتمعاتنا، مما يحول دون تحوله إلى أداة لإعادة إنتاج التفاوتات القائمة بل وزيادتها.
نحو عقد اجتماعي جديد للعلم والتكنولوجيا
نحن اليوم على مفترق طرق تاريخي. فالتحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي على العلوم الاجتماعية والإنسانية في بلادنا العربية هي في الحقيقة جزء من تحدي أكبر يتمثل في إعادة تعريف علاقتنا بالمعرفة والتكنولوجيا. هل سنبقى مجرد مستهلكين للتكنولوجيا، أم سنصبح شركاء في إنتاجها؟ هل سنسلم بتبعيتنا الفكرية، أم سنعمل على تأصيل معرفي يمكننا من استيعاب التكنولوجيا وتطويعها لخدمة أهدافنا وقيمنا؟
الطريق إلى المستقبل يبدأ من إعادة الاعتبار للعلوم الاجتماعية والإنسانية، واعتبارها ركيزة استراتيجية في عصر الذكاء الاصطناعي. نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد للعلم والتكنولوجيا، يضمن التكامل بين التخصصات المختلفة، ويؤكد على القيم الإنسانية في تطوير التكنولوجيا واستخدامها، ويجعل من دراسة الجدوى الاجتماعية ومخرجات المؤتمرات متعددة التخصصات أدوات لضمان أن يكون التقدم التقني في خدمة التنمية الشاملة والمستدامة.
في الختام، يمكننا القول إن العلاقة بين العلوم الاجتماعية والإنسانية والذكاء الاصطناعي في البلدان العربية هي علاقة مصيرية، ستحدد إلى حد كبير موقعنا في الخريطة الحضارية المستقبلية. إما أن نعمل على تحقيق التكامل بينهما، فنشارك بفاعلية في تشكيل المستقبل، وإما أن نتركها علاقة صراع وتنافس، فنبقى على هامش التاريخ. الخيار لنا، والوقت يداهمنا.
***
د. عبد السلام فاروق







