تجديد وتنوير
محمد السليطي: الإصلاح الديني.. لماذا يفشل دائما؟

في كل مرحلة من التاريخ الإسلامي، كانت هناك أصوات ترفع راية "الإصلاح الديني"، بدافع استعادة روح الدين الأولى، أو استجابة لتحديات العصر، أو رفضًا للفساد الديني والسياسي. ومع ذلك، بقيت تلك الأصوات تغرد في هوامش الوعي، تصطدم بجدار من الرفض أو التجاهل، ثم تُطوى سيرتها في ركن منسيّ، أو تُحاكم بوصفها تهديدًا للمقدّس.
رغم مرور قرون من المحاولات والتجارب، ما زال السؤال المؤلم يلاحق الوعي الإسلامي:
- لماذا يفشل الإصلاح الديني دائمًا؟
هل الخلل في النصوص؟ أم في طرق تأويلها؟
هل العطب في المصلحين؟ أم في الجماهير؟
أم أن البنية العميقة للسلطة الدينية والسياسية لا تسمح بأي إصلاح جذري؟
الإجابة عن هذا السؤال تتجاوز سرد الوقائع أو التذكير بسير الرموز، لتلامس جوهر الأزمة في داخلنا: في طريقة فهمنا للدين، وحدود حرية التفكير في بيئة تستمد شرعيتها من التقليد لا من العقل، ومن الطاعة لا من المساءلة.
لقد تحوّلت الدعوات الإصلاحية في أغلب التجارب إلى خطر يجب تحييده، أو صوت يجب تشويهه، أو شذوذ يجب إخراجه من الجماعة، لا لأنّها لم تكن صادقة أو ضرورية، بل لأنها اصطدمت بجدار الثوابت المصنوعة، والمصالح المقدّسة، والوعي المشروط بالخوف.
هذا المقال ليس عرضًا تاريخيًا لمراحل الإصلاح، بل محاولة لفهم العوامل البنيوية والفكرية التي تجعل مشاريع الإصلاح، مهما اختلفت أسماؤها، تتحوّل غالبًا إلى تجارب معزولة، تُوأَد قبل أن تُزهر، وتُعامل كرجس يجب اجتنابه.
الإصلاح يهدد بنية المصالح
الإصلاح الديني لا يعني تجميل الخطاب أو تحديث الفتاوى بلغة معاصرة، بل هو في جوهره زلزال يهزّ مراكز الفهم والتفسير والتأثير؛ إنه تغيير في معادلة السلطة والشرعية والوعي. لذلك يُنظر إلى أي إصلاح ديني حقيقي بوصفه تهديدًا وجوديًا، لا فكرة قابلة للنقاش.
إن الإصلاح الديني، حين يكون جادًا، يربك ثلاث قوى متشابكة ومترابطة:
1. المؤسسة الدينية، التي راكمت نفوذها التاريخي من خلال احتكار التأويل، وفرض نمطٍ معين من التدين، وتكريس الطاعة كفضيلة، والسؤال كخيانة.
2. السلطة السياسية، التي وجدت في الدين أداة فعالة للضبط الاجتماعي، وتبرير الاستبداد، وقمع المعارضة تحت لافتة "الخروج عن الجماعة" أو "نشر الفتنة".
3. الوعي الشعبي، الذي أُشبع بالخضوع للمألوف، وتمّ تطبيعه على رفض النقد، والتبرّم من الأسئلة، والارتياح لعالم خالٍ من القلق الفكري.
هنا، لا يظهر المصلح بوصفه مجددًا أو مفكرًا، بل كمشاغب أو مشاكس أو مثير للفتنة، لأنه يزعزع السائد، ويهدم البُنى النفسية والرمزية التي اعتادها الناس، ويهدد مصالح طبقة كاملة بنت سلطانها على الجمود.
تاريخيًا، كانت العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية قائمة على مقايضة صامتة:
- "أمنحك الطاعة والشرعية، وأمنحني الحماية والهيبة."
وهذا التحالف جعل من الإصلاح خطرًا مزدوجًا، يُنظر إليه لا كمسعى فكري، بل كفعل تمرد على منظومة متكاملة تُقدّم نفسها بوصفها "الدين".
الإصلاح إذًا لا يُرفض لأنه باطل، بل لأنه يفتح أبوابًا مغلقة، ويعيد الأسئلة إلى الواجهة، ويُخرج المؤسسة من منطقة الأمان التي طالما أقامت فيها باسم القداسة والتقليد. ولهذا، حين يُطرَح خطاب إصلاحي حقيقي، فإن أول ما يتحرك لمواجهته هو تحالف غير معلن بين: حراس الدين، حماة السلطة، أنصار العادة.
لا شيء أخطر على البنى الراسخة من فكرة جديدة تحمل وعيًا حرًّا، أو من مصلح يرى أن الدين يجب أن يُحرّر من قبضات المصالح لا أن يُعاد ترميمها.
الجمهور يستثقل التفكير
ليست كل مقاومة للإصلاح الديني نابعة من السلطة أو المؤسسة، بل كثير منها يصدر من الجمهور نفسه، الذي يرى في أي محاولة للمراجعة تهديدًا لطمأنينته النفسية وهويته الدينية.
الإصلاح يتطلب شروطًا صعبة: مساءلة الموروث، تفكيك المسلّمات، نقد القداسة الزائفة، استبدال الطاعة بالمسؤولية.
لكن المجتمعات المتدينة في أغلبها تربّت على الخوف من السؤال، والتوجس من التفكير، والخضوع للموروث بوصفه مقدسًا غير قابل للنقاش. في هذه البيئة، يُصبح التسليم هو الإيمان، والشكّ كفرًا، والتفكير تمرّدًا.
حين يظهر صوت إصلاحي، لا يُستقبل كدعوة للتجديد، بل كعدوان على الثوابت. تُرفع في وجهه عبارات جاهزة:
- "أنت تشكك في الدين"،
"من أنت لتفهم؟"،
"هذه أفكار مستوردة"،
"لا تثير الفتنة"،
"هذا ليس وقت الأسئلة".
هكذا يُحوَّل العقل الجماعي إلى سجن طوعي، نُغلق أبوابه من الداخل باسم الإيمان، بينما الإيمان الحق لا يخشى التفكير، ولا يهرب من النقد، ولا يُهادن الجهل. هذا العداء للسؤال ليس جديدًا، بل يتكرّر كلما حاول شخص أن يسأل السؤال الأول:
- "لماذا نفعل ما نفعل؟ وهل هذا ما أراده الله، أم ما صنعه الناس باسم الله؟"
لكن الجمهور، المرهق من تناقضات الواقع، والمنهك من الصراع بين الدين والتحديث، غالبًا ما يختار الراحة الذهنية، فيلوذ بالموروث، ويستسلم للرموز، ويجد في الصمت عبادة.
إن المصلح الديني لا يُقابل فقط بسيف السلطة، بل أيضًا بعصا الجماعة، التي تعتبر كل مساس بالمألوف خطرًا على وحدتها، أو طعنًا في إيمانها، أو تعدّيًا على مرجعياتها.
وهنا تتجلى المفارقة: الجمهور الذي يحتاج إلى الإصلاح، هو أول من يقف ضدّه، لأنه لا يريد أن يفكر خارج ما تعلّمه، ولا أن يرى خارج ما أُرشد إليه.
إن الإصلاح الذي لا يبدأ من تحرير الإنسان من الخوف من التفكير، سيظل يدور في دائرة مغلقة، مهما كان عمقه أو صدقه أو جرأته.
الإصلاح يتعثر داخل أدوات التراث ذاته
كثير من المشاريع الإصلاحية في التاريخ الإسلامي لم تُواجه فقط بالرفض من الخارج، بل تعثرت من الداخل، لأنها حاولت إصلاح البنية التقليدية بأدواتها ذاتها. لقد وقع كثير من المصلحين في فخ التوفيق بين روح التجديد وهيكل الجمود، فتبنوا نفس المنهجيات التي أنتجت الأزمة، ثم استغربوا لماذا لم يتغيّر شيء.
بدل أن تكون مشاريعهم ثورة على أنماط التفكير المغلقة، تحوّلت إلى ترقيعات معرفية، حاولت أن تُرضي الجميع، ففقدت القدرة على إقناع أحد. إن المشكلة ليست فقط في الموروث، بل في طريقة التعامل معه. فقد لجأ بعض المصلحين إلى نفس الأدوات القديمة:
- نفس طرائق الاستدلال بالنصوص بمعزل عن السياق.
- نفس المفاهيم المستهلكة: "الفرقة الناجية"، "أهل السنة والجماعة"، "الخروج عن الحاكم"، "الطاعة المطلقة".
- نفس اللغة الفقهية الصارمة التي تقيس الحياة على مقولات الحلال والحرام، لا على معيار الحرية والكرامة والعقل.
والأخطر من ذلك أن بعض الإصلاحيين سَعَوا إلى إقناع المؤسسة التقليدية بصلاحية إصلاحهم، فاضطروا إلى ليّ أعناق المفاهيم، وتجميل أفكارهم بلغة ترضى عنها السلطة الدينية، فخسروا زخم الثورة، ودخلوا في لعبة المصالح التي كانوا يريدون خلخلتها.
لقد تحوّل كثير من الخطاب الإصلاحي إلى عملية ترويض للقديم، لا مساءلة له، وبدل أن يكون الإصلاح مشروعًا معرفيًا يفتح آفاقًا جديدة، أصبح أشبه بمحاولة تجميل البناء الآيل للسقوط.
الإصلاح لا يمكن أن ينجح ما دام محبوسًا داخل نفس الأدوات التي صادرت حرية العقل في الأصل.
لا يمكن لعقل يريد التحرّر أن يستند إلى نفس المسلمات التي كبّلته، ولا يمكن لفكر نقدي أن يستخدم مفاهيم بُنِيت أصلًا على قمع السؤال. التحرر يبدأ حين نجرؤ على إعادة بناء المنهج، لا مجرد تغيير النتائج، وعلى تفكيك آليات إنتاج الفهم، لا إعادة ترتيبها. أما أن نطلب من القديم أن يجدد نفسه من الداخل، دون تغيير الأدوات، فهو كمن يطلب من السلاسل أن تفتح الباب.
المصلحون لم يُنصفهم أحد
حين نقرأ تاريخ الإصلاح في السياق الإسلامي، لا نجد سجلًّا من الانتصارات، بل نطالع تاريخًا حافلًا بالخذلان، وقصصًا متشابهة من القمع والنفي والتكفير والاغتيال الرمزي. لقد كانت سيرة المصلحين، في الغالب، سيرة من ساروا عكس التيار، ودفعوا الثمن وحدهم، بينما الجمهور الذي دافعوا عنه تفرّج بصمت، أو انضم إلى جوقة الإدانة.
- في كل مدرسة أو مذهب، هناك رموز حاولت أن تطرح أسئلة صادقة، وأن تجدد الفهم، وأن تقرّب الدين من الإنسان، لا من السلطة، لكن نهايتهم كانت واحدة: العزلة أو التشويه أو الموت المعنوي.
- في المذهب الشيعي:
الشيخ محسن الأمين العاملي: جُرّح وهوجم لأنه انتقد الغلوّ في الشعائر، ودعا إلى تنقية الممارسات من الطقوس التي تُسيء إلى صورة المذهب.
محمد رضا المظفر: حاول تحديث مناهج الحوزة العلمية في النجف، وكتب في المنطق وأصول الفقه بروح جديدة، لكن مشروعه أُهمل ولم يُورّث.
السيد محمد كاظم شريعتمداري: وقف في وجه ولاية الفقيه دفاعًا عن استقلال المرجعية، فكان جزاؤه الإقامة الجبرية والتشويه والعزلة حتى الممات.
علي شريعتي: جعل من الدين مشروع تحرر وعدالة، لكنه وُوجه بتكفير المحافظين وريبة العلمانيين، ومات غريبًا قبل أن يرى ثمار أفكاره.
السيد محمد حسين فضل الله: طُعن في عقيدته واتُّهم بالانحراف لأنه دعا إلى خطاب عقلاني، وأعاد قراءة التاريخ الإسلامي بجرأة.
آية الله كمال الحيدري: اليوم يُحاصَر ويُتهم ويُشيطن لأنه يراجع البنية العقائدية بأسئلة نقدية، تحاول أن تُحرّر الدين من الاستلاب المذهبي.
- في المذهب السني:
أبو حنيفة: رُفض وأُهين وسُجن لأنه رفض مسايرة السلطة الأموية والعباسية، وتمسك باستقلالية الفقه.
ابن رشد: نُفي وأُحرقت كتبه لأنه دافع عن العقل ضد النقل الجامد، وسعى لتأسيس منهج فلسفي إسلامي عقلاني.
جمال الدين الأفغاني: تنقل من بلد إلى بلد بسبب رفضه الاستبداد الديني والسياسي، وكان مشروعه أوسع من حدود عصره.
محمد عبده: رغم دعوته الرصينة لإصلاح الأزهر وتجديد الفقه، واجه سيلًا من الهجمات والتشويه، حتى من داخل المؤسسة التي أراد إصلاحها.
- في المدرسة العقلانية والمعتزلة:
واصل بن عطاء وعبد الجبار: قدّما فهمًا عقلانيًا يقدّم العدل والعقل على ظاهر النص، فتم تصنيفهم كزنادقة، وأُقصيت مدرستهم من الوعي العام.
في التصوف:
الحلاج: دفع حياته ثمنًا لجرأته الروحية، أُعدم بتهمة الزندقة، رغم أن كلماته كانت صرخة إنسان يبحث عن الله لا عن السلطة.
ابن عربي: اتُّهم بالحلول ووحدة الوجود، لكنه في الحقيقة كان ينادي بتوحيد الإنسان لا تأليهه، وبالرحمة لا بالإقصاء.
- في المدرسة الإباضية:
نور الدين السالمي: دعا إلى فقه متجدد وتعليم عصري، لكن أفكاره بقيت في الهامش، ولم تحظَبما تستحق من اهتمام أو تفعيل.
كل هؤلاء، على اختلاف مشاربهم، اتحد مصيرهم: التهميش، التخوين، الاضطهاد، ثم التمجيد بعد الموت وكأنهم لم يكونوا خصومًا للنظام القائم، بل أبطاله. المفارقة أن كثيرًا من هؤلاء يُعاد الاعتراف بقيمتهم بعد وفاتهم، ويُحتفى بأفكارهم بعد أن تكون قد خُنقت وهم أحياء.
- يُقتل المصلح باسم الدين، ثم يُقدَّس في كتب التاريخ
يُقصى لأنه يزعج، ثم يُروى باعتباره مفكرًا رائدًا، بعدما أصبحت أفكاره غير قادرة على التغيير.
وهكذا، لا يُنصف المصلح في حياته، بل يُحوَّل بعد موته إلى ذكرى رمزية تُجمَّد وتُستخدم كديكور على جدران المؤسسة ذاتها التي قاومها.
المجتمع لا يطيق الصراحة
حين يجرؤ المصلح على طرح مراجعة جذرية، أو يُعلن عن تفكير خارج السياق المألوف، يُقابل – حتى من أقرب الناس إليه – بجُملة مألوفة:
- "هذا ليس وقته."
وكأنَّ للصراحة مواسم محددة، وللصدق أوقاتًا مشروطة.
في الواقع، أحد أكبر العوائق أمام أي إصلاح حقيقي ليس فقط المؤسسة، ولا الجمهور الرافض للتفكير، بل البيئة الاجتماعية المحافظة بطبعها، التي تؤمن بـ"التغيير المؤدب"، وتخشى الصدام مع المقدس. هذه البيئة تطالب المصلح بأن يكون:
- هادئًا في الطرح.
- تدريجيًا في النقد.
- مطواعًا في اللغة.
- غامضًا في الرأي.
أي أنها تطلب منه أن يقول الحقيقة، دون أن يُزعج أحدًا بها. أن ينتقد الخطأ، لكن بطريقة لا تُفهم، وأن يدعو للإصلاح، بشرط ألا يهزّ القناعات، وألا يُحرج الجماعة، وألا يُخالف المزاج العام.
في ظل هذه العقلية، تُفرض على المصلح وصاية خطابية تمنعه من أن يكون صريحًا في تقييم الواقع، أو واضحًا في تشخيص المرض، لأن الصراحة تُفهم كوقاحة، والوضوح يُقرأ كتحدٍّ، والجرأة تُعدّ خروجًا على الأدب الجماعي.
ولهذا، فإن كثيرًا من المصلحين انتهوا إلى أحد مصيرين:
1. الصمت الاختياري، حفاظًا على سلامتهم أو على الحد الأدنى من تأثيرهم.
2. العزلة القسرية، حيث يُدفعون إلى هوامش الحياة الثقافية، ويتم نسيانهم عمدًا.
تحت هذا الضغط الاجتماعي، تتحوّل المفاهيم الكبرى – كالحرية، والنقد، والعدالة، والعقل – إلى شعارات مُعقّمة، يتغنّى بها الجميع، لكن لا يريد أحد تطبيقها حين تُهدّد راحته الفكرية أو العقائدية.
حتى مناصرو الإصلاح – حين يُختبرون – يُطالبون المصلح بالتراجع، ويخافون من الارتباط به، وينصحونه بـ"التأني"، أو "اختيار الكلمات"، أو "عدم المواجهة المباشرة"، وكأن الإصلاح ممكن دون صدام، أو كأن الثورة على الفكر السائد يمكن أن تمرّ بلا مقاومة.
وهكذا، يُترك المصلح وحيدًا، يُساء فهمه وهو حي، ويُجرَّم وهو ينطق، ثم تُكتَب عنه قصائد الرثاء بعد موته، وكأنه لم يكن منبوذًا يومًا ما.
- لقد اعتاد المجتمع أن يخشى من يُفكر بصوت مرتفع، وأن يُطوّق كل فكرة جريئة بخطاب ناعم يُعيدها إلى القفص، ثم يبتسم لها من بعيد.
إن البيئة التي لا تحتمل النقد، لا تحتمل التغيير، وإن المجتمع الذي يقدّس الصمت باسم الحكمة، يساهم – من حيث لا يدري – في استمرار التكلّس والجمود.
إصلاح بلا تحرر إنساني... عبث
كل إصلاح لا ينطلق من تحرير الإنسان، هو مجرد عبث لغوي، أو هندسة شكلية لنظام فكري مأزوم.
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الكتب، ولا من إعادة ترتيب المفاهيم، ولا من تزيين الخطاب، بل يبدأ من تحرير الإنسان من الخوف، من القيد، من التبعية، ومن وهم الطمأنينة داخل القفص.
ما لم يتحرر الإنسان من:
- الخوف من التفكير،
- الرهبة من السؤال،
- الخضوع لسلطة تُقدّم نفسها باسم الله،
- وصاية الجماعة التي تفرض عليه نمطًا موحدًا من الإيمان...
فلن يُكتب لأي مشروع إصلاحي أن ينجح، حتى لو امتلك أعظم الأفكار، وأصدق النيّات.
التجديد ليس مجرد "تليين" للخطاب أو تحديث للمصطلحات، بل هدم للبنية القديمة التي بنت مفهوم التدين على الطاعة، لا على الوعي، وعلى التلقين، لا على التأمل.
ولذلك، لا معنى لإصلاح ديني: ما دام الإنسان يُربَّى على الخوف من الاجتهاد، ويُحرَّم عليه التفكير خارج حدود الموروث، وتُخنق بداخله كل نزعة نحو الحرية الفردية والكرامة الذاتية.
الإصلاح الديني، في جوهره، معركة لتحرير الإنسان قبل تحرير النص. ولا يمكن لمشروع تجديد أن ينجح ما دام السلطان الديني والسياسي والاجتماعي جاثمًا على صدر الفرد، يحدد له ما يؤمن به، وما يقرأ، وما يعتقد، وما يشك فيه.
في أوروبا، لم تبدأ نهضة الفكر الديني إلا حين تفكّكت البنية السلطوية الكنسية، وتحرر العقل من الخوف، والضمير من القمع، والفرد من هيمنة الجماعة. حينها فقط أصبح ممكناً للإنسان أن يرى الدين من جديد، لا كعُصبة رجال يتحكمون به، بل كفضاء روحي أخلاقي يُعبّر عن حريته لا عن قيده.
وما لم نصل إلى تلك اللحظة الفارقة، التي يُعاد فيها تعريف العلاقة بين الإنسان والدين من خارج الهيمنة والوراثة والتخويف، فإننا سنظل نعيد إنتاج الفشل ذاته، حتى ونحن نُطالب بالإصلاح.
- "تحرير النص من سلطة التأويل، لا يكفي ما لم يتحرر الإنسان من سلطة الخوف."
ختاماً: لا إصلاح بلا وعي... ولا وعي بلا تحرر
الإصلاح الديني ليس بيانًا بلاغيًا، ولا ندوة أكاديمية، ولا خطبة عاطفية؛ إنه مسار طويل من الوعي المؤلم، والشجاعة النادرة، والتمرد الأخلاقي على القوالب الجاهزة. ولذلك، فهو لا ينجح بالخطب، ولا يتحقّق بالتمنّي، ولا يُفرض من فوق. بل يولد من الأعماق المهملة، ومن العقول التي قررت أن تفكر رغم الخوف، وتشكّ رغم التلقين، وتصدق رغم التكفير.
الإصلاح لا يعني التمرد لأجل الصدام، بل لأجل استعادة المعنى. لأجل أن يعود الدين كما بدأ: قوة روحية تُحرّر الإنسان، لا تُقيّده. رسالة أخلاقية تعيد التوازن بين الإيمان والحرية، لا أن تصنع من الطاعة بديلاً للعقل.
لكن كل إصلاح يبدأ من فرد حرّ، يرفض أن يكون عبدًا للماضي، أو تابعًا للقطيع، أو صدى لغيره. يبدأ من عقل يملك: شجاعة السؤال، حرية النقد، جرأة التحرر من التقديس الزائف.
أما المجتمعات التي تخشى الصراحة، وتُرهب الاختلاف، وتحتفي بالسكوت على الخطأ باسم الوحدة، فهي بيئات تُجهض الإصلاح قبل أن يُولد، وتستدعي الفشل باسم الحذر، وتستبدل التجديد بالشعارات.
- الإصلاح الديني لا يفشل لأنه مستحيل، بل لأنه لا يُراد له أن يُنجز.
لأنه حين يُفكّك سلطات الوهم، تُفقد امتيازات كثيرة، ويُسحب السقف من فوق رؤوس المستفيدين من الجمود.
إنّنا لا نحتاج إلى مصلحين أكثر، بل إلى جمهور مستعد أن يفتح عينيه، ولو على الحقيقة المُرّة. إلى مؤمنين يعرفون أن الدين لا يُقدَّس بالصمت، بل بالمراجعة، وأنّ الشك ليس خيانة، بل طريق الإيمان الحقيقي.
فلنبدأ من هنا: من تحرير العقل من الخوف، ومن تحرير الدين من السلطة، ومن تحرير الذات من الاستسلام. عندها فقط، لن يفشل الإصلاح.
***
محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي