أقلام ثقافية
منى الصالح: مصائر مكتباتنا

(يؤلمني المصير الذي ستؤول إليه كتبي، لي مع كل كتاب ذكرى، بل الكتب بمجموعها تفيض بذكرياتي، بوصفها سجلًا للأزمنة والأمكنة والمحطات الفكرية لحياتي.. نحن اليوم في العصر الرقمي، إذ يتوغل الذكاءُ الاصطناعي في كلِّ شيء، ويتدفق سيل المعلومات والمعارف، إلى درجة لا يتمكن معه أيّ إنسان من ملاحقة إلا أقل القليل فيها).
وأنا أقرأ مقالة الدكتور عبد الجبار الرفاعي (مصائر مكتباتنا) كانت ابتسامة ترتسم على محياي، كلماته ووصفه نقلني لعام ٢٠٢١ وعام ٢٠٢٢ حيث شغلتني فكرة مصير مكتبتي بعد ما رأيت ما آلت إليه مكتبات الوالد رحمه الله.
كان الوالد رجل دين وقارئ يحب الشعر، أينما يحل لابد في المكان مكتبة يحار فيها من نتركها بعهدته، النجف محل دراسته، بابل حيث أقمنا فترة طفولتي، في زمن كان الكتاب يكلف حياة الإنسان، فكان مصيرها سطوح البيوت يرفع عليها بنيان فتدفن مع الأيام، ومن العراق إلى الأحساء ومن ثم قطر حيث يكون مقر عمله ترتفع قوائم الكتب، مكتبة واسعة في الدوحة وأخرى في عهدتي في الأحساء، وأورثني هذا العشق الذي لا فرار منه، لا مكان يسعني دون كتب تزينه، فازدادت المكتبة ارتفاعا، روايات وقصائد شعر ومجلات ثقافية وكتب فكرية تضاف لمكتبة رصت بها كنوز الموسوعات القديمة، وأول فناء في منزلي الجديد كانت المكتبة تستوطن الشقة الصغيرة وتتسع في المنزل الفسيح لتكتسح رغم تخصيص غرفة متسعة لها مكان جلوسي ونومي ومطبخي، المكان الذي لا كتب فيه ولا نبتة لاحياة فيه، صحراء قاحلة، وضاق المكان، ولم أستطع التخفيف من هذه الرغبة في اقتناء الكتب، حاولت كثيرا، عاهدت نفسي أن لا أبتاع أي كتب عند زيارتي لمكتبات المدن الجديدة أو المعارض الدولية، الكتب تناديني فلا يصمد أمامها عهد، وكأن عناوينها أصدقاء قدامى أهرول لمعانقتهم حين تتلألأ أمامي الحروف وكما تقول ايريل في مكتبة ساحة الأعشاب: (تنتظر الكتب ذلك التبني وتعرف كيف ترد الجميل لمن يحبها فتمنحه غالبا ما يطلبه الحنان، والعاطفة والرعشة والغرائبية والذكاء ومعالم جديدة لفهم هذا العالم والقدرة على العيش فيه)، حبي للكتب لم يجعلني حريصة ومتابعة بدقة لكل كتاب يخرج منها، بل كتبي متاحة للجميع، مكتبتي ترحب بالأصدقاء، أكثر هداياي كتب، أسرع للمشاركة بمعارض الكتاب المستخدم، أفرح لكتاب يعود إلي بعد استعارته فيه حواشي وعلامات تدل على قارئ متمرس، مفتوحة هي تشرع نوافذها وتستقبل زوارها عبر الأيام، ومن ثم قل زوارها، ونافس مكتباتنا، الكتاب الالكتروني، بل قد نجد الأبناء يقتنون كتاب أو رواية بطبعة حديثة حسب ذائقتهم وهو يتوسط مكتبة الآباء، ولا أعلم لم لازمني هاجس مصير مكتباتنا في زمن الكورونا؟! هل لأن الموت كان يحيطنا رغم تواجده الدائم أم أن حضوره الكثيف أعاد للذهن موت مكتبات والدي وأنا عاجزة عن تقديم ما ينفع، ومنذ ذاك الحين وأنا أفكر كيف أخفف عن أبنائي حملي الثقيل من كتب ودروع وشهادات شكر وتقدير اكتظت بها غرفة المكتبة الفسيحة، وفي ليلة شتوية في نهاية عام ٢٠٢٢ م، أتخذت قرار التخلي حسب قدراتي، عزيز كطفل يفارق حضن أمه، بدموعها تربت على كتفيه لترسله لمستقبل لابد منه، تستعد ليوم آت، أفرغت نصف محتوياتها، كراتين صفت تنتظر محبيها، وتخلصت من كل الدروع والشهادات بعد أن قدمت لها الشكر والامتنان، ومع كل التخلي بقيت مكتبتي شامخه تزهر بكتبها، ومازالت رائحة الكتب تستدرجني حيث لا أقاوم فأعود محملة بها، يقول كوفمان في كتابه بيت العودة (أنقذتني القراءة أكثر من الأدب كانت الكلمات تكفيني تؤثث حضورها كانت متواطئة كانت تأتي من الخارج لنجدتي).
فساعد الله قلب الدكتور الرفاعي والدكتور رضوان، فقد تألمت ومكتبتي لاتقارن بمكتباتهم .
***
منى الصالح
لندن ٢٠٢٥