أقلام ثقافية

الطيب النقر: الفن الأثيوبي شمس أفريقيا الساطع

على مضي الزمان، واختلاف الظروف، ما زالت نفسي تخضع لهذا الفن الراقي سواء أردت أو لم أرد، ولعل ترددي من سماع هذا الفن الفريد،  كان نابعاً من شكي بأنه ينطوي على خرافات وأساطير، ومن خشيتي رغم جهلي الفاضح بلغته، بأن له دعائم وطيدة بعقائد وثنية، تعرض الخالق عرضاً يجعله أشبه بالإنسان في الخصال، والسلوك، والطباع، ولكن من حسن الحظ أن الفن الأثيوبي على كل حال، لا يهتم كثيراً بفلسفتي الجوفاء تلك، ولا بهواجسي التي لها ما يبررها، لأنه مطمئن إلى هذه المكانة الرفيعة التي حازها في أفئدة القارة، ولاقتناعه بأنه أصبح من الخالدين.

ومهما يكن الغرض الذي دفعني للشروع في كتابة هذا المقال، فأنا أيها العزيز الأكرم، أبعد الناس من تحليل سمات هذا الفن الرفيع، وعرض خصائصه عليك، رغم أن هذا الأمر خليق بالعناية، فهو كما نعلم، لا يخلو من لذة قوية، وجذل كثير، لكل من صغى إليه، وأخذ نفسه بألوان من الطرب والابتهاج، فأنت حينها حتماً ستعترف بما ليس من الاعتراف به بد، بأنه قد شغلك ساعة ما، أو وقتاً ما، عن الاستماع لفنك السوداني الذي ظن واهماً بأن ذاتك موضعاً لاحتكاره.

 وفي الحق أن أرباب هذا الفن المجيد في ذلك القطر الجميل المتحضر، قد وفقوا توفيقاً عظيما، من أن يدنو منا فنهم هذا، رغم اختلاف اللغة وتباينها، ومن أن نحب هذا الفن، ونجد لهذا الحب صدى في مهجنا، فأخص ما  يمتاز به شدوهم، وترنيمهم، أنه يجبرك على أن تظهر له رضاك، وأن تمضي معه وأنت مطمئن، وقانع، بأنك لن تضيع وقتك عبثاً، أو أنه لن يضفي على دواخلك تلك النشوة التي لا تجدها إلا كل حين وحين.

 ولعل أشد الأشياء ايذاءً للنفس، وايلاما للقلب، جهلنا بهذه اللغات التي يتغنى بها مبدعي تلك الديار، فالحقيقة التي لا تحتاج منا لمراء أو مماحكة، أن هذه الطائفة قد نجحت نجاحاً لم يتح لغيرهم من شرق أفريقيا، لما في فنهم من ألق عذب، وحماسة متقدة، وتفرد في المقامات والايقاع والدفوف، فمما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن أغلب الشعوب التي تحيط بهم، قد أنفقوا كل أعمارهم أو بعضها، في الاستماع لسحرهم وبراعتهم، وأن هذا السحر قد ترك أثراً في أفئدتهم دفعهم دون اكراه، أو ارغام، أو عنف، لمشاركة أثيوبيا هذا كله، بنفس الانفعال والشعور والوجدان، ليس فهماً أو حفظاً، فقد انقطعت بيننا وبين ذلك الأسباب، ولكننا نقول بصوت متهدج، ولسان متلعثم، أن مشاركتنا تتمثل في ولعنا، وشغفنا بهذا الفن الذي يرفع الكلفة، ويلغي الفروق، وإذا كان لكل هذا الحديث نتيجة، نستطيع أن  نستخلصها ونمضي بها إلى غاية يمكن أن ننتهي إليها، هي أن عوالم الفن الأثيوبي الجميل وقوالبه الموسيقية الضاجة بالبهجة والمكتظة بالثراء، لا يمكن استقصائها في مقال عابر، فهي شديدة التفرد، مختلفة التنوع، تحتاج إلى وقوف طويل، وسرد كثير التفصيل.

***

د. الطيب النقر

في المثقف اليوم