أقلام ثقافية

محسن الأكرمين: الذاكرة الوراثية...

إنها الذاكرة الوراثية التي تحتلنا بالحماية المطلقة، وقد لا تُنعش حياتنا بزفير أكسجين طري بالنقاوة. مرات بعدد قطران الملل والتنغيص، كنت أتساءل عن عدة متاعب وفيرة تلحق بي بالمزامنة المستديمة، وأقول: ماذا يجري بحق الجحيم (يا أنا)؟ ما الذي فعلت (يا أنا) في حياتك بحق السماء؟ وحين كنت أفيق سهوا من فزع مشاهد من نار الجحيم، كنت أجد نفسي مُبللا بعرق بارد، كنت أُسارع بالتَّطْبيب للمستقبل، وليس للحاضر البئيس بؤس الواقع.

كانت بعض من قراراتي من نوعية بلسم الحياة السحري، وتمثل الجرأة وسياسة الردع المزدوجة، وألاَّ أدع أي أمر مهما كان ثقله يؤثر على ذاتي بالنخر والتسويس وحتى التعشيش في مخيلتي، بل كنت أضع لكل بداية مملة نهاية، وألاَّ أقع في ورطة تعنيف ذاتي بالقسوة وعذاب الضمير، فالأمر قد يبيت يُماثل عنف ألم السرطان، الذي يموت حتما بموت حامله.

جُلُّ البشر ولدوا بميول العنف، وهذا ما ورثناه من قابيل حين قام على أخيه هابيل وقتله. تلك كانت نهاية من لحظات موت قصص الحب، التي كانت تجعلنا جميعا ضعفاء وإلى الأبد، وبلا تطهير للذاكرة الوراثية. من مميزات حياتي غير المتجانسة، أنَّنِي أكون غير مُتزامن مع أحداث قد تبرق برقا في مخيلتي بمناورات الحدس، لكنها في الواقع كانت تَمنح لي مزيدا من الوقت للاختيار والتمييز بين الصالح والطالح، وبهذا يكون أملي الدائم، بأنِّي سأعيد حياتي بالأفضل والانتعاش، لكن هيهات... هيهات... فالحلم يبقى تحقيق رغبة ليس إلا.

لن أُخطارَ بحياتي ثانية، وسأجد في ذاتي التوأم بالتوافق والمزامنة للحظات العيش وأمل السعادة، كنت أكره أن أعود إلى الذات التي تحتلني بالطوع والمطاوعة، وغالبا ما تقيد مشاعري بالتضييق، وبلا سياج واق من صحن الحرية. فالشروع بعمليات الارتداد الذاتي، كاد يسلمني مُكبلا نحو أحداث مضنية من الماضي الفوضوي، والذي قد يَفتح مسودة ذاكرتي الوراثية في شمس حارقة، وبمسرح روماني بالفضح والضحك، والقتل الرحيم. مرارا، كنت معاكسا لكل المنعرجات الغائرة، وكنت أتبع نور الشمس الدافئ، هُروبا من هذا العالم القديم، ومن ظلي الذي يسبقني في أخذ كل قراراتي المفزعة.

لحظة، تذكرت قصة التفاحة بين النقل والعلم، ومنها كانت نبتة أول بذور عصيان للإنسان (تفاحة آدم وحاء)، وأول شرارة للعلم (تفاحة نيوتن)، لكني كنت متيقنا من قفزة الإيمان في قلبي  بقوة، والتي طبعا ترشدني "حيثما يوجد الرجال مقيدون بالأخلاق والقانون، تكون هنالك الحياة لا الموت".

هل هذه ذاكرتي التي تُفرغ اليوم ملفاتها بالتسريب وبالتطهير، وتعمل على إحياء ذاكرة العقل العقلاني؟ أين نحن من الحقيقة، ونحن نحملها معنا في النعش إلى القبر عند النهاية الحتمية؟ أقسم بالذي لا بداية له ولا النهاية له، أني لست وحيدا ولم أكن يوما كذلك في حياتي (أنا)، بل الله يرافق دربي، ويحميني بالمعالجة من عنف ذاتي. لذا فليس كل شيء يستحق الحياة في الذاكرة الوراثية، بل نفض الفوضى خلاص لمنغصات حياتي.

***

محسن الأكرمين

في المثقف اليوم