قراءات نقدية
رياض عبد الواحد: قراءة وتأويل لقصيدة "لنُقِم مملكة القبلة" للشاعر يحيى السماوي

العشق يتشظّى والوجود يتجلى
تمهيد نظري: النص بين الانفلات الدلالي وتجربة الوعي:
تتخذ القصيدة الحديثة من اللغة حقلاً للتجريب المستمر، وفضاءً تتقاطع فيه الميتافيزيقا باليومي، والرمز بالانفعالي، إذ لا يُقدَّم المعنى بوصفه ثابتًا بل بوصفه عرضة للخلخلة والانزياح والتعدد. هنا تتقاطع المدرسة التفكيكية، التي أسسها جاك دريدا، مع المدرسة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) عند هوسرل وميرلوبونتي، فكلا المنهجين يشككان في مركزية المعنى المستقر، ويسعيان إلى فهم العالم بواسطة تفتّح اللغة أو الشعور.
ان قصيدة "لنُقِم مملكة القبلة" تمثّل انموذجًا كثيفًا لهذا التشظي المعنوي والتجلّي الحسي، فهي تقترح قيام "مملكة" رمزية قائمة على الحبّ والجسد والصلاة واللعب الحسي، لكنها تفتت ذاتها من الداخل عبر تناقضاتها البنيوية، وأفعال الوعي العاشق الذي لا يتعامل مع العالم بوصفه موضوعًا بل بوصفه تجربة شعورية.
القراءة التفكيكية — القصيدة ككسر للثنائيات:
يفتتح النص بإعلان سلطوي:
"لـنُـقِـم مملـكـة الـقـبـلـة"
وعلى الرغم من أن الجملة تبدو خطاب حب، فإنها مسرّبة بلغة الدولة والسلطة والإنشاء الجمعي. تتأسس "القبلة" هنا بوصفها مركزًا دينيًا وعاطفيًا وسياسيًا، لكنها ما تلبث أن تُخترق عبر تفاصيل أنثوية يومية:
"مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..
والـتـَّـنـُّـور ُ..
والأرضُ"
تتجاور "المكحلة" و"التنور" و"الأرض" كأدوات بيتية/رمزية تُنزع عن مركزيتها الوظيفية وتُعاد شعريتها. وهذه مفارقة تفكيكية تقوّض مركز "العشق" التقليدي وتحيله إلى نسيج من العلامات المتشظية.
ثم ينقلب الشاعر على "الأنا" المستقرة:
"وأنـا الـمِـرْوَدُ والـكـُـحـلـة ُ والـمـحـراثُ والـنـهـرُ
مـعـي !"
تتشظى الأنا هنا على أدوات أنثوية وذكورية، ما ينفي أي هوية جنسية صلبة. يتحول الشاعر إلى "مرود" و"كحلة"، فيُخترق جسده الرمزي بلذائذ التأنيث، ثم يعود إلى "المحراث" و"النهر" ليستعيد فحولته. هذه المراوحة تخلخل ثنائية الذكر/الأنثى وتكشف أن الهوية هي بناءٌ لغوي أكثر منها جوهرًا وجوديًا.
أما الصلاة، التي تُستدعى عادةً بوصفها ذروة الطقس الديني، فيعيد النص إنتاجها بلغة هزلية فاتنة:
"نـصـلـّـي
كـلـمـا كـبَّـرَ عـصـفـورٌ
وأمَّـتْ بالأزاهـيـر الـفـراشــاتُ"
تتحول الصلاة إلى لعبة طبيعية، تُقام حين "يكبّر" العصفور، لا المؤذن، وحين تؤم الفراشاتُ الأزهارَ لا الجماعةَ. في هذا المشهد، نعيش ما يُسمّى لعب العلامات، وهو جوهر التفكيك: نزع السلطة عن المعنى ونقله إلى الفوضى الجميلة التي تتكلم بها الطبيعة والطفولة والحواس.
وفي ذروة هذا اللعب، يُصدر الشاعر "فتوى" شعرية:
"كـلُّ عـشـق ٍ طـاهـر ِ الـنـبـض ِ
بـتـولـيّ الـلـظـى والـمـاء
وجـهٌ مـن وجـوه ِ الـوَرَع ِ !"
وهنا يتم إزاحة مركز الدين التشريعي لصالح وعي حسّي بالعشق. فالعشق يصبح فعل ورع لا لأنه "مباح"، بل لأنه "بتوليّ"، أي بريء من التدنيس لا من الجسد.
القراءة الظاهراتية — العالم كما يتبدّى في العاشق:
في الظاهراتية، كما في فلسفة هوسرل، تُفهم الأشياء بواسطة حضورها في الوعي لا بوصفها موضوعات مستقلة. من هذا المنظور، يُعاد النظر في كل الموجودات في القصيدة لا كأسماء بل كتجليات شعورية.
انظر إلى قوله:
"وما يـمـلأ أحـداقـي فـلا تـبـصـرُ إلآكِ..."
يُختصر العالم كله في "وجهها"، فلا "تبصر" العين إلا ما يتجلى في حضورها. هذه لحظة وعي خالص، إذ تُلغى المسافة بين الذات والموضوع، ويصبح الآخر امتدادًا للذات، أو مرآةً لها، بل يتجاوز ذلك ليكون طريقة إدراك العالم برمّته.
وكذلك:
"مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..
والـتـنـورُ..
والأرضُ"
ليست هذه مجرد أدوات، بل أشياء ممتلئة بحضورها، فتُفهم لا من خلال استعمالها، بل بواسطة الإحساس بها عبر الحبيبة، كأن العالم لا يُلمس ولا يُشمّ إلا من خلالها.
أما الزمن، الذي يُفهم عادة كخطٍّ مستقيم في الوعي، فيُعاد تشكيكه عبر انصهار الماضي بالحاضر:
"فـرَحُ الـقـلـبِ جـديـدٌ
وقـديـمٌ قِـدَمَ الـنـخـل ِ الفراتيِّ
وأحـزان ِ الـمـنـافـي
وَجَعي !"
في هذه الجملة، لا يتبدّى الزمن في خطية كرونولوجية، بل في تراكم إحساس داخلي. الفرح، والحنين، والحزن، كلها لحظات تتداخل في آنٍ شعوريّ واحد، لا يُفهم إلا عبر التجربة المباشرة. وهذا لبّ القراءة الظاهراتية.
الخاتمة: ما بين المعنى والظهور، يولد النص:
تجمع قصيدة "لنُقِم مملكة القبلة" بين الفتنة البنيوية والتجربة الشعورية، فتغدو ساحة لعبٍ للعلامات لدى التفكيكي، وساحة تجلٍّ للوجود لدى الظاهراتي. تفكك القصيدةُ مركزية المعنى، وتنسف الثنائيات، ثم تعيد العالم للذات العاشقة بوصفه سلسلة من الظهورات الحسية والروحية.
هي قصيدة لا تطلب أن تُفهم، بل تطلب أن تُعاش، كما تعاش القبلة، أو الصلاة، أو النهر، أو المكحلة — لا بوصفها أدوات، بل باعتبارها محلاً للوعي العاشق الذي لا يتوقف عن الإدهاش.
***
رياض عبد الواحد
.........................
لـنُـقِـم مملـكـة الـقـبـلـة
مـعـكِ الـمـكـحَـلـة ُ الـبـلّـورُ..
والـتـَّـنـُّـور ُ..
والأرضُ ..
وما يـمـلأ أحـداقـي فـلا تـبـصـرُ إلآك ِ...
ومـا يـقـتـلُ فـي عـيـنـيَّ
وحـشَ الـطـَّـمَـع ِ
//
وأنـا الـمِـرْوَدُ
والـكـُـحـلـة ُ
والـمـحـراثُ
والـنـهـرُ
مـعـي !
//
فـلـنـُقِـم
مـمـلـكـة َ الـقـُـبـلـةِ والـضـحـكـة ِ والـعـشــبِ ..
نـصـلـّـي
كـلـمـا كـبَّـرَ عـصـفـورٌ
وأمَّـتْ بالأزاهـيـر الـفـراشــاتُ ..
ونـُفـتـي:
كـلُّ عـشـق ٍ طـاهـر ِ الـنـبـض ِ
بـتـولـيِّ الـلـظـى والـمـاءِ
وجـهٌ مـن وجـوه ِ الـوَرَع ِ !
//
فـرَحُ الـقـلـبِ جـديـدٌ
وقـديـمٌ قِـدَمَ الـنـخـل ِ الفراتيِّ
وأحـزان ِ الـمـنـافـي
وَجَعي!
***
يحيى السماوي