أقلام حرة
مرتضى السلامي: الدين في القلب.. نبعُ ماءٍ عذب أم سيلٌ جارف؟

في رحلةِ الإنسانِ الأبديةِ بحثاً عن معنىً يروي ظمأ روحه، وعن نورٍ يبددُ وحشة أيامه، يظلُّ الدينُ ذلك المحيطَ الشاسع الذي تتجهُ إليهِ القلوبُ، كالمسافرِ العطشانِ يتجهُ صوبَ واحةٍ خضراء. إنهُ ذلك الشعورُ العميقُ بالصلةِ مع السماء، وذلك الوعدُ بالسكينةِ والطمأنينة. لكن، كم من مرةٍ رأينا هذا المحيطَ الهادئ يتحولُ إلى بحرٍ هائج، وكم من مرةٍ تحولت تلك الواحةُ الظليلة إلى سرابٍ خادع أو أرضٍ يباب!
إنها الحقيقةُ المؤلمةُ التي تجعلُ القلبَ يتأملُ بحسرةٍ وحيرة، والتي يعبرُ عنها الدكتور عبد الجبار الرفاعي بوضوحٍ شافٍ وبصيرةٍ نافذة في مقدمة كتابه "مقدمة في علم الكلام الجديد"، حيث يقول: "الدين يمكن أن يكون عاملاً أساسياً في البناء، كما يمكن أن يكون عاملاً أساسياً في الهدم، ويعود الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في طريقة فهم الناس للدين، ونمط قراءتهم لنصوصه، وكيفية تمثلهم له في حياتهم. من يريد أن يُعلم الناس الحياة يمكنه استثمار الدين، كما يمكن استغلال الدين ممن يريد أن يُعلم الناس الموت... من يريد أن يُعلم الناس السلام يجد الدين منجماً يمكنه استثماره فيه، كذلك يمكن استغلال الدين في الحروب... من يريد أن يُعلم الناس المحبة يجد الدين منبعاً لا ينضب يمكن استثماره في تكريسها، كذلك يمكن استغلال الدين في إشاعة الكراهية، وهي من أسوأ أشكال توظيفه في الحياة." (الرفاعي، مقدمة في علم الكلام الجديد، ص ١٨).
تلك الكلمات ليست مجرد تحليلٍ فكري بارد، بل هي انعكاسٌ أمينٌ لجرحٍ غائرٍ في وجدان الإنسانية. فالدينُ في جوهرهِ، كالغيثِ النقي الذي يهطلُ من السماء، لا يحملُ إلا الخيرَ والحياة. لكن حين يصلُ هذا الغيثُ إلى الأرض، فإن مصيرهُ يتحددُ بنوعِ التربة التي تستقبله. فإن سقطَ على أرضٍ طيبةٍ، أنبتَ زهراً وثمراً، وأروى عطشَ الكائنات. وإن سقطَ على أرضٍ مالحةٍ أو صخرية، تحوّلَ إلى وحلٍ أو سيلٍ جارفٍ لا يُبقي ولا يذر. الأرضُ هنا هي قلوبنا، وعقولنا، وطريقة فهمنا.
انظر يا صديقي حولك، وتأمل في أعماقك. حين تقرأ عن المحبة، وتجدُ في الدينِ ذلك المنبعَ الذي لا ينضب، كما قال الرفاعي، تشعرُ بأن روحكَ تتسعُ لتحتضن الكون بأسره. ترى في كل إنسانٍ أخاً لك، وفي كل كائنٍ أثراً من جمال الخالق. هذا هو "استثمار" الدين في تعليم الناس الحياة. إنه الدين الذي يبني الجسور، يداوي الجراح، يمسحُ دمعة اليتيم، ويُطعمُ جائعاً، ويغرسُ شجرةً تظللُ الأجيال. إنه الدين الذي يجعلُ منكَ إنساناً أفضل، أكثرَ رحمةً، وأوسعَ قلباً.
ولكن، على الضفةِ الأخرى من النهر، يقفُ أولئك الذين يحملون النصوصَ ذاتها، ولكن قلوبهم أغلقت نوافذها أمام النور. يقرأون عن المحبة، فيفسرونها على أنها حِكرٌ على جماعتهم ومن يتبعُ طريقتهم. ويقرأون عن السلام، فيجعلونهُ سلاماً لأتباعهم وحرباً على كل من يخالفهم. هؤلاء هم من "يستغلون" الدين، كما يُحذرنا الرفاعي، ليُعلموا الناسَ الموتَ والكراهية. إنهم يحولون النبعَ العذبَ إلى مستنقعٍ آسن، والمنجمَ الغني بالكنوزِ إلى كهفٍ مظلمٍ لا يسكنهُ إلا الخوفُ والتعصب.
وكيف يتحول الدواء إلى سُم؟ إنهُ يحدثُ حين ننسى أن جوهرَ الإيمانِ هو أن يُصلحَ ما بداخلنا أولاً، لا أن نُصلحَ بهِ الآخرين قسراً. يحدثُ حين تصبحُ النصوصُ سيفاً نُسلِطهُ على الرقاب، بدلاً من أن تكونَ بلسماً نضعهُ على الجراح. يحدثُ حين نعتقدُ أننا امتلكنا الحقيقةَ المطلقة، وأن كلَّ من عداها في ضلالٍ مبين. إنها مسؤوليتنا جميعاً، مسؤولية كل فردٍ منا. الدينُ أمانةٌ في أعناقنا، والنصوصُ بين أيدينا. فإما أن نقرأها بقلبٍ مُحبٍّ يسعى إلى البناء والرحمة والسلام، فنكون ممن يستثمرون هذا الكنزَ العظيم. وإما أن نتركَ لظلامِ نفوسنا وعصبياتنا أن تُفسرها لنا، فنكون، عن قصدٍ أو عن جهل، ممن يستغلونها في الهدمِ والخصام والكراهية.
في نهايةِ كل يوم، حين تخلو إلى نفسك، اسألها بصدق: هل جعلني إيماني اليوم أكثر حباً ورحمة؟ هل جعلني أرى الجمالَ فيمن حولي حتى لو اختلفوا عني؟ أم هل زادني قسوةً وتعصباً وانغلاقاً؟ في الإجابةِ على هذا السؤال، يكمنُ مصيرُ الدينِ في حياتنا، ومصيرُ أوطاننا التي أنهكها استغلالُ المُقدّس في خدمةِ أهواءِ البشر. فالطريقُ إلى الله لا يمرُّ عبر بثِّ الكراهيةِ بين خلقهِ أبداً، بل عبرَ المحبةِ التي تسعُ الجميع.
***
مرتضى السلامي